ثلاثية الهيمنة الجديدة

 

عيسى الغساني

نشأت الدولة الوطنية في خلال القرون الثلاثة الأخيرة 1800 و1900 و2000، وقامت على فكرة أن الدولة كيان حيوي لحياة البشر وبنيت على مفهوم أن الدولة لكل مواطنيها، دون تمييز بينهم على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو المستوى الاجتماعي أو أي تباين في أي من الصفات الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية.

وقامت الدولة الوطنية كبديل عن نظام الإمبراطوريات وعصور الإقطاع وتعززت مع الثورة الصناعية ووضعت نظم الدولة الوطنية، مع بدايات عصر النهضة، وأن الحقوق تبنى على حقوق الفرد، ومع بوادر الثورة الفرنسية، ولدت مفاهيم كالسيادة وفصل السلطات ونظام المجالس التشريعية ونظام الانتخابات، وروج لهذا النموذج ودعم من القوى الدولية الفاعلة بقصد إحكام السيطرة على النظام الاقتصادي والمالي للدول التي تدور في فلك منظومة الدول الفاعلة والمستفيدة والتي حلت مكان الإمبراطوريات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية من 1939 إلى 1945.

وكانت عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة تقوم على مبدأ السيادة وعدم حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول. لكن ثلاثة أحداث كبرى في قرننا هذا بدأت تتداخل وتتسارع، تدفع إلى الواجهة بإعادة تعريف الدول الوطنية ومفهوم السيادة، أو بمعنى آخر البديل المطروح لمفهوم الدولة الوطنية .

أول هذه الأحداث هو وباء كورونا الذي عطل الحراك الفردي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي ونقله إلى نظام سيطرة مركزي، تحركه وسائل الإعلام، فأصبحت وسائل الإعلام هي الموجة والمشرع وهي السلطة التنفيذية والقضائية في آن واحد، وتجلى ذلك بالتهديد بفرض عقوبات وغرامات مادية ومعنوية على الكيانات والدول والأفراد الذين لا يستجيبون لتعليمات منظمة الصحة العالمية. ونشأت حالة إعلامية شديدة الغرابة وهو مؤشر إصابات كورونا ما لبث بعد أن أدى الدور المرسوم إلى الاختفاء ولكن الأثر باق ومستمر.

والفاعل الثاني هو التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي ودخول نظام اقتصادي عبر النت وعملة جديدة وهي العملة الرقمية بمختلف أنواعها، وهذه العملة يتم التعامل بها بمبالغ تقدر بمليارات، وهي غير مشروعة وغير ممنوعة، وهذا مفهوم حديث يتنافى مع ثوابت الدولة الوطنية، إذ يمكن للعملة الرقمية، أن تغير معادلات النظام المالي لأي دولة في غضون ثوان .

والفاعل الثالث: الأزمة الأوكرانية بكل أبعاد الصراع الرقمي والمالي والاقتصادي وتداعياتها على النظام العالمي والتحرك السريع لتحالف التكتلات، وإرهصات خروج مفهوم القوى الصلبة ودخول القوى الناعمة وفاعلون أفرادا وتحالفات قسرية، تجر فيها قطاعات ودول إلى تكتلات دون وعي أو إرادة منها ويدير الصراع عدة دول دون اعتبار لبقية الدول، وتحييد كلي وكامل لدور الأمم المتحدة؛ فظاهرة شركة جوجل وبداية مرحلة توظيف وتسخير القدرات المعرفية للأفراد في كل دول العالم والاستحواذ على هذه القدرات، وحرمان الدولة الوطنية من حق الاستفادة والتطوير مؤشر لا يقل أهمية عن قدرات الذكاء الاصطناعي المركزية والتي تنقل مركز الثقل للفرد إلى من يملك ويحتكر المعرفة.