مسعود أحمد بيت سعيد
تناولنا الأزمة الأوكرانية في مقالين سابقين خلال الفترة الماضية، حاولنا عبرهما استشراف تطورات الأزمة وآفاقها ودحض بعض الآراء التبسيطية، وأشرنا في مكان ما، إلى ما نعتبره نقاط الضعف الروسية.
وها هي الأنباء القادمة من ميادين المعارك تؤكد ما ذهبنا إليه؛ حيث زفت وسائل الإعلام العالمية خبر الانسحاب الروسي، ومدلول هذه الخطوة في استراتيجيات الحروب يُعد مؤشرًا خطيرًا. ورغم تضاد التحليلات التي تعزو ما جرى إلى فرضيات مُختلفة، بين من يعتبرها مناورة روسية، ومن يرجعها إلى أبعاد أخرى، فيما يذهب فريق ثالث إلى أبعد من ذلك؛ حيث يصور ما حدث في الشهور الماضية على أنه مجرد "بروفة روسية". ولا شك أنَّ الأمر بحاجة إلى المزيد من الوقت حتى تتضح الرؤية بشكل أفضل. ويبقى السؤال: هل بدأ الفشل الروسي التدريجي أم الاستعداد للمعركة الحاسمة أم انسحاب يفسح المجال لاستئناف المفاوضات وطريقها؟ كل الاحتمالات واردة، والأخير حتمي مع مرور الأيام؛ حيث حصاد النجاح والفشل يوضع على الطاولة ولن تعطي ما عجزت إعطائه ساحات القتال. وتتقلص الخيارات أمام موسكو، بينما يزداد التطرف الأوكراني مع كل جولة عسكرية وسياسية. مما يرجح اعتبار الانسحاب التكتيكي أقرب الاحتمالات وأكثرها واقعية.
وبصرف النظر عن التحليلات المتناقضة، فما هو واضح أن الاستراتيجية الروسية منذ البداية مليئة بالثغرات، وما لم يطرأ عليها تعديل جذري تبقى قابلة لكل الاحتمالات. لقد خاضت موسكو الجولة الأولى وفق استراتيجية شاملة سياسية واقتصادية وعسكرية باردة لا ترقى إلى مستوى التحديات؛ فعلى الصعيد السياسي، لم تضف الدبلوماسية الروسية حليفًا جديدًا، رغم ظاهر تحييد بعض حلفاء الغرب التقليديين، ولم تمتن علاقات وتحالفات قائمة سوى التغني بالعلاقات الصينية التي لا يعرف مضمونها وحدودها وأبعادها إلى الآن. وعلى الصعيد الاقتصادي، مجاراة الاستراتيجية الغربية برفع الحظر عن الطاقة مع الإبقاء على ما لا يشكل ضرورة بالنسبة لهم، رغم إجبارهم على الشراء بالعملة الروسية وهو مكسب آني؛ حيث استطاعت بعض الدول الأوروبية تخزين جزء كبير تقريبًا من احتياجاتها استعدادًا للشتاء، بما يمكنّها من الصمود مدة طويلة مع البحث المستمر عن البدائل والخيارات وهي متوافرة، وهو خيار تعول عليه موسكو كثيرًا وإلى حد ما بنت عليه جزءا من سياستها الاقتصادية. أما على الصعيد العسكري، فكان اعتماد استراتيجية الضربات الانتقائية الموضعية واستنزاف الطرف الآخر حتى ينضج الظرف الداخلي وهو من الرهانات الروسية بمعنى آخر لجأت إلى استراتيجية الحرب طويلة المدى، ومعروف أن هذه الاستراتيجية ابتكرتها الشعوب الفقيرة المتخلفة في مواجهة القوى الكبرى المدججة بالأسلحة والترسانات النووية؛ حيث لا تقوى على المواجهة المباشرة والحسم العسكري السريع، فتلجأ إلى الحروب الطويلة المدى في تشتيت الخصم واستنزاف طاقاته العسكرية والبشرية والمادية؛ وهي استراتيجية سليمة بالنسبة للشعوب الفقيرة أكدت تجارب الحروب الثورية سلامتها وأن تستخدم من قبل قوى عظمى فلم يسجل التاريخ نجاعتها على الأقل في الفترة القريبة القابلة للاسترشاد وتشكل بالمجمل مقتلها.
التجربة العملية لهذه الإستراتيجية اختبرت في أكثر من مكان، لكن لماذا تغيب عن الأرض الروسية من مستودعاتها النظرية الأساسية الآن؟ وإذا صدق ما رشح من معلومات حول إقالة بعض القيادات العسكرية الميدانية، فإن ذلك يوحي بأكثر من انطباع، منها وجود اختراقات كبرى، والأمر وارد، والأمثلة المشابهة لا تعد ولا تحصى. وهنا يستوجب الأمر القيام بزيارة خاطفة للتاريخ القريب؛ حيث إن انهيار الاتحاد السوفيتي السابق لم يتم نتيجة الضغط الخارجي أو لأخطاء في التطبيق الاشتراكي أو لأسباب اقتصادية كما يشاع، فهو بلد غني وأكبر منتج للنفط والحديد والصلب وغيرها، وإنما لأسباب داخلية بحتة، ومن ضمنها الاختراقات الداخلية، وحيث القوى التي ساهمت في نخر التجربة السوفيتية ما زالت قائمة في بنية الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية والاقتصادية؛ وهي مرتبطة بأشكال مختلفة مع الرسمالية الغربية ولديها طموح في إحكام سيطرتها على الوضع الروسي الداخلي، ولا شك أن إضعافها يمنحها الفرصة لتوظيف أية انتكاسة خارجية في تعزيز مواقعها الداخلية. قد لا يعجب ذلك رغباتنا، ولكن الحقيقة التي تقدم نفسها بلا شروحات إضافية.
يبقى التراجع والهجوم من قواعد الحروب وهناك تجارب كثيرة يتم فيها التراجع من أجل الهجوم والعكس صحيح.. وإذا كانت حصيلة المواجهة الأولية غير مقبولة وغير واضحة بما فيه الكفاية، وإن كانت آثارها الاقتصادية والاجتماعية بدأت تعكس نفسها في معظم العواصم الأوروبية ومرشحة للتفاقم. ويبقى من المبكر التنبؤ بالنتائج النهائية للصراع، وهو ما ستكشفه الأيام المقبلة.