بقعة زيت

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

السلوك القويم هو الفطرة الربانية الطبيعية في الإنسان منذ خلقه، وهو ما سيَّرت به كل المجتمعات الإنسانية شؤون حياتها، فتعايشت بفكر سليم، وسادت فيه ثقافة القبول المنطقي ورسخته بالدراسة والتعلُم لما يتناسب واستمرارها، ثم ارتقت المجتمعات إلى وضع قوانين قابلة للتعديل حسب مقتضى الحاجة والضرورة وشرائع لها أصل سماوي راسخ يتمسك بها من يعتنقها تمسكًا شديدًا لا يقبل المساومة، وصولًا إلى إيقاع العقوبة على المخالف حتى لا يُفسد وأمثاله ذلك النظام الدقيق.

يتطلب التغيير الثقافي للأعراف والعادات واللغات والأديان وحتى الأهواء والرغبات الذي يطرأ على دولة أو مجتمع ما فترة زمنية طويلة تُحسب بعشرات السنين، وقد جرت العادة أن تنبري ثلةٌ من المعارضين مبدئيًا في مواجهة ذلك التغيير برفض واستنكار الفكر الدخيل الذي يتنافى مع الثقافة السائدة وماجرت عليه العادة، وتنافحُ عن موقفها بالتحذير من الفسق القادم وتبيان الحقيقة التي لا يتوقع نتائجها كثيرٌ من الناس أو هم عنها غافلون، وذلك من خلال سوق الأدلة وبراهين الإثبات والدحض مع أمثلة حقيقية من قرون خالية وعجوز في الغابرين، وما تلبث تلك النخبة اللامعة من المتطهرين مع قوة موقفها وقلّتها إلا أن تضمحّل بعد موجة تشكيك إعلامي مضاد، فتتساقط رؤوسها بمرور الوقت ويخفُتُ صوتها بإزاء طغيان صوت الفكر الجديد ويأفُل نجمها وراء غيوم المنذَرين فساء مَطرُهُم معاودًا الظهور بين فترات زمنية تتباعد تدريجيًا.

كانت الحروبُ المباشرة قديمًا من أهم عوامل تسريع وتيرة التغيير الثقافي وتقليص المدة الزمنية لتقبله من خلال فرض المُحتل هيمنتهُ الكاملةَ على كل مفاصل الدولة والمرافق الحيوية وبسط نفوذه بترهيب المجتمع بقوة السلاح من جانب واحتواء شخصيات محلية لتمرير سياساته وقوانينه من جانب آخر ولن تعلم بقية الشعوب بما كان وماحدث في تلك البقعة من العالم إلا بعد عدة سنين وربما عقود حيث تصبح المعلومات شيئًا من الإثراء المعرفي في الكتب والتي لم تنجُ من مشرط الرقيب وعمليات التقبيح كجرائم المغول في العراق، والفرنسيين في الجزائر، والإنجليز في الهند، كما تقابلها موجة تشكيك مضادة تنزه المحتل وتشرعن جرائمه.

طبعًا الحروب المباشرة بشكلها القديم ووجهها القبيح اللاأخلاقي والتي لا تستندُ إلى أسباب وأعذار مقنعة ماعدا أطماع التوسع والنرجسية والقتل لمجرد القتل باتت مرفوضة اليوم ولا تقبلها المجتمعات الإنسانية القويمة نظرًا لما تخلفه من نتائج وخيمة كما شرعت قوانين دولية صارمةٌ في هذا الشأن؛ وبما أن الدولة الغازية تتعرض لفقد مصالحها كالخسائر العسكرية والاقتصادية فضلًا عن السُمعة فإنها عند الضرورة قد تفتعل الأسباب لخلق أعذار تبدو شكليا مقبولة وتجنبها تضارب مصالحها ثم تجر إليها ما تسميهم بالأصدقاء للدعم والتشجيع والتصفيق وصناعة زخم إعلامي عالمي مع وجود موجة مضادة ضعيفة لا يُلقى لها بالًا.

ربما لن يحتاج المُتأمّل إلا قليلًا من الوقت لملاحظة بقعة زيت بألوان طيفها وهي تطفو ملوثة الماء ومزيدا من الفهم لإدراك سبب الإصرار على إبقاء دور الأقليات نشطًا منذ مائة عام تقريبًا إلى يوم الناس هذا، بعد أن كان مُعتمدًا على الحط من المكانة الإنسانية كالعنصرية والعرقية؛ تنبهت الشعوب لتلك التفرقة بموجب فطرتها القويمة فنبذت هذه النزعات المقيتة وقاومتها حتى جاءت القوانين الدولية لتضييق منابعها مع ازدياد الوعي العام بالتوازي مع ظهور الإعلام وسرعة انتشار الخبر وانتقال المعلومة التي تكشف زيف ترويج الحرية والأخوة والمساواة، وفي المقابل ساد في تلك المجتمعات التفسخ الاجتماعي والانحلال الأخلاقي وساهمت السلطات التنويرية بالسكوت عنه وتقبل انتشارة وبالتالي أصبح من الضرورة إذكاء نزعة جديدة تتفاعل مع تلك القيم المستحدثة وتُقبل في تلك المجتمعات على أن يساندها تسونامي إعلامي ضخم يجوب كل دول العالم ولا يبقي في طريقه ولا يذر بيتًا أو مدرا إلا دخله.

سوف يتحول من يتبنى فكر المثليين أو المصاب بهذا النوع من الفصام- إذا جاز التعبير- بالنقاش إلى دور فلسفي فارغ لا نهاية له كما يفعل المُلحد، فيقدم أعذارًا واهيةً على ستة ألوان لا يقبلها إلا من هو على شاكلته، فطورًا يقول ما هو ليس بالتراضي يُجرَّم كالتحرش والاغتصاب والبيدوفيليا، وطورًا ما هو بالتراضي يُقبل كما ساد في الغرب بشقيه من صديق وصديقة ومساكنة بدون زواج، والعقد الحقيقي هو مُجرد قبول الطرفين بما في ذلك الرذيلة والتي لا يقبلها حتى الحيوان، فلا استغرب من شذوذ هذه الأفكار كما شذت ألوان الزيت فوق فطرة الماء.

هناك من هو مستفيدٌ جراء تعزيز دور المثليين وإن تنافى قبوله أخلاقيًا مع العقل والمنطق، فإن تبسيط فكرة القبول بشكل إعلامي غير مسبوق في مجتمعات- كنَّا نعتقد أنها متقدمة- لا يحتمل إلا تفسيرين رئيسين: دعمٌ خفي يساندهُ ترسيخَ فكرة تقبلهم على المدى الطويل بغرس بذرة هذه الثقافة في تُربة الأجيال القادمة وسقيها بالمؤثرات والألوان والأفلام، وخلق بؤر فاسدة يُسمح لها بالمطالبة بحقوقها الخاصة ويعادى ناكرها فتتحول إلى حركة أو جمعية معترفٌ بها، كما شُرع سابقًا قانون معاداة السامية ولم يستفد منه إلى اليوم سوى اتباع الحركة الصهيونية.

إن وجود مثل هذه البرك الآسنة ليس إلا قنابل موقوتة يراد بها خلخلة نسيج المجتمع المترابط ثم تكون وبالًا عليه بتشتيت جهود الحكومات والضغط عليها في الاعتراف بأحقيتهم المزعومة ثم نبذ الستر والجهر بقبول القوانين التي ستصدر في تنظيم شؤون حياتهم والتي ستتعارض بلا شك مع الحياء والوقار، ويعاود نجم المتطهرين الظهور فهم قومٌ لايعرف الكلل والملل لهم مُدخلًا وعن قول الحق لا يتورعون ولا يستكينون.

ما أيسر وأسهل طريق الفطرة القويمة وما أصعب وأعقد العوج عنها، ومن يعتقد غير ذلك كمن يغرد خارج السرب شذوذًا لا تمييزًا.