د. عبدالله باحجاج
هل ينبغي الحديث أو حتى التلويح بخط الفقر في بلادنا، وسكانها من العُمانيين يبلغون مليونين و804 آلاف و117 نسمة، ويشكلون نسبة تقارب 62 بالمائة من إجمالي عدد السكان البالغ 4 ملايين و527 ألفا و446 نسمة بنهاية ديسمبر 2021؟ تابعنا هذا الحديث مؤخرًا من قبل مسؤول رفيع في إحدى الوزارات التي تعنى بتحقيق التوازن بين التنميتين الاقتصادية والاجتماعية، وذلك عندما أوضح أن بلادنا تتجاوز بكثير خط الفقر العالمي المُحدد سابقاً عند 1.9 دولار في اليوم؛ فيما سيستقر خلال صيف 2022 عند 2.15 دولار، وفق مراجعة جديدة من البنك الدولي.
هذا يُظهر لنا إشكالية كبيرة في بنية الفكر ومنتوجات تفكيره بصرف النظر عن سياقات التصريح، ومهما كانت- وهي غير معروفة لنا- والمعروف ما تمَّ تداوله، وذكرته سابقًا، وكفى به لنبني موقفًا مستنكرًا لذاته، ومن عدة زوايا؛ فتحديد خط الفقر ملزم من قبل البنك الدولي، لا ينبغي أن تعتبره نخبنا حاكمًا لمساراتنا المالية ولا معنية به أصلًا، فهو خطٌ للأنظمة في الدول الفقيرة وذات الكثافة السكانية العالية، وبالتالي لا يُمكن الزج ببلادنا في هذا التصنيف، ولا جعله حديثًا مُسلمًا به.
وحتى لو بحثنا في سياقاته بصورة سريعة؛ فالحديث عن خط الفقر موجهٌ لمن؟ إذا كان للخارج فهو يسيء للداخل؟ وإذا كان للداخل، فهو لا يعرف داخله! وبقليل من التأمل، سنرى أنَّ هذا الفكر امتداد متناغم ومنسجم مع فكر الحد الأدنى للأجور، وتخفيض المرتبات، والعقود المؤقتة، وحصر الاستحقاقات الحمائية لفئاتها الاجتماعية بسقوف مالية دنيا، مثل الحد الأدنى للراتب عند 325 ريالًا، و400 ريال للأسر لاستحقاق دعم المستلزمات المدرسية والمصروف اليومي (500 بيسة للطالب)، حتى لم يذهب هذا الفكر إلى جعل المصروف كامل الأسبوع، وإنما الأيام الدراسية الخمسة، وهذه الأخيرة أكبر دلالة تقربنا لفكر الحديث الآن بصوت مرتفع عن خط الفقر العالمي، والافتخار بنجاح بلادنا في تجاوزه بكثير.
هذا كله يحدث في ظل تغييب عدة عوامل؛ أبرزها: أولًا السكان، فما حجم العُمانيين مقارنة بتلكم الدول التي تفوقنا بأعداد ضخمة؟ وثانيًا: الموارد المالية، فما حجم مواردنا مقارنة بمواردهم؟ وما حجم مواردنا مقارنة بتعداد سكاننا؟ وثالثًا: استشرافات رؤية "عُمان 2040" لمستقبل الإنسان والمجتمع، ومنها هذه الرؤية ننطلق منها في نقد حصر الفكر على الحدود الدنيا، وآخر إبداعاته الآن مرجعية خط الفقر العالمي، وهذا من تجليات الراديكالية المالية التي تقلب الأوضاع الاجتماعية رأسًا على عقب منذ 2020، وتغيّر مفهوم الطبقات الاعتيادية في البلاد، عوضًا عن تصحيح بعض اختلالاتها التي كرستها العقود الماضية.
تلكم النماذج من التفكير تقف على مسافات بعيدة جدًا مع الماضي والحاضر والمستقبل، وربما علينا أن نضيف كذلك هنا التاريخ إذا ما كان لها تأثير مستدام على الأيديولوجيا والروابط الاجتماعية السياسية، وكلما نتعمق فيها- أي النماذج- نرى أنها في طريق لن يصل بنا إلى ما تستشرفه "رؤية 2040" في المجال الاجتماعي الذي ينبغي أن يُواكب الثورتين الصناعية والتكنولوجية المقبلتين، فكيف نواجهما بفكر خط الفقر والحد الأدنى والعقود المؤقتة؟ لذلك فإنَّ الحاجة الضرورية لم تعد محصورة في الحفاظ على الوجود البشري المادي من أكل وشرب فقط، وإنما الفكري والتكنولوجي، ومدى قدرة المواطن على التفاعل مع تقنيات العصر الجديد، وحتى توفير الضروريات المادية قد تدخل فيها هذا الفكر، ووضع لها شروطاً تعجيزية مثل الحق في الأرض السكنية وشرط توفير التمويل، فمن أين يأتي أصحاب الحدود الدنيا بهذا التمويل، وهم يشكلون أعدادًا كبيرة؟
واستشرافات "رؤية 2040" هي حاكمية تفنيدنا ونقدنا لهذا الفكر، لعلنا نساهم في رسم المشهد الوطني مُسبقًا، ونضع فوق الطاولة السياسية تفسيرات ومآلات ما يُؤسس داخل المرحلة الانتقالية من أفكار وبنيات للمستقبل، مما يسهل التدخل الآن في تغيير الفكر المؤطر أو تطوير منتوجاته قبل أن تصبح واقعًا يستصعب حتى تطويره.
لن تكون الحدود الدنيا غايةً للطموحات الاجتماعية على وجه الخصوص التي تم تنظيرها في "رؤية 2040" بحدود كبرى، وبالذات "محور الإنسان والمجتمع"، فكيف يستقيم الحديث عن خط الفقر مع هذا المحور واستشرافاته بلا حدود؟ من هنا نرى أن كل فكر لا يرتقي إلى مستوى الطموحات الوطنية المُجمع عليها، فهو إما أن يكون غير متصل بها الآن، وبالتالي يغرّد خارجها؛ والأخطر في هذا الاحتمال، أن هذا الفكر يؤسس للمرحلة الدائمة، أو أن هذا الفكر يُقارن بلادنا بغيرها من الدول التي تجد صعوبة بالغة في تأمين لقمة العيش للوجودية المادية، والغذائية بالذات، ولا وجه للمقارنة هنا.
وبالتالي يستوجب إرجاع هذا الفكر إلى مساره عاجلًا، إذا كان وراءه اجتهادٌ ماليٌ، فهذا سيخلق لنا نظامًا جديدًا للطبقات (أشرنا إليها في مقالنا السابق المعنون باسم "الآثار الاجتماعية والسياسية للعقود المؤقتة). وينطلق هذا الاجتهاد المالي من اعتبارات مالية مجردة من أبعادها الاجتماعية دون أن تحكمه مرجعية "رؤية 2040"، والحفاظ على المكتسبات الاجتماعية، كما إنه يغرق فكره وعمله في فلسفة التغيير الراديكالي للإصلاح المالي، ومن ثم العمل على تأمين الحدود الدنيا للفئات الأكثر تضررًا، وليس كل المُتضررين، وليس من كل ضرورياتها، وإنما من منظور الحد الأدنى لها، والآن يُخرِج خطابًا رسميًا عن مقارنة ظالمة بين خط الفقر العالمي مقارنة بمآلات الأوضاع الاجتماعية في بلادنا!
وختامًا.. لا بُد من طرح التساؤل التالي: الى أين سيقود فكر الحدود الأدنى المجتمع؟ لن نستبعد أن يخرج لنا قريبًا بخط ملزم للفقر، يتم تحديثه سنويًا حسب موجة الغلاء التي تطال لقمة عيش المواطنين، ونضع هذا الملف فوق الطاولة السياسية؛ لأنه ينبغي إعمال العقل السياسي في هذه المسارات، وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام المطالبة نفسها التي نخرج بها في بعض مقالاتنا، وهي أنه آن الأوان للمراجعة الكاملة للمسارات المالية التي بدأت في 2020 وحتى الآن، ونُجدِد اقتراحنا كذلك باستحداث منصب المستشار الاجتماعي أو استحداث مركز للدراسات يكون مُستقلًا، ويضم خبرات عمانية متخصصة ترفد صانع القرار بآثار وانعكاسات التحولات على التوازنات والثوابت الوطنية التي ينبغي الحفاظ عليها، مهما كانت التحديات؛ لأنها تشكل قوتنا الناعمة التي نُراهن عليها لمواجهة كل التحديات المقبلة.