شيلا بيلا!

 

عائشة بنت أحمد بن سويدان البلوشية

 

دقت نواقيس الخطر عندما بدأت الأدوار في المُجتمعات تتفكك وتضمحل وخصوصا في مجتمعنا العماني، فحتى عهد قريب كنَّا نتحدث عن دور الأقارب والجار والصديق في تربية النشء والحفاظ على القيم والمبادئ، وأن هذه النعمة جعلت منَّا نسيجا مجتمعيا متماسكا، فالعادات والتقاليد هي ذاتها في المحافظات على تباين جغرافيتها، وإن اختلفت قد يكون اختلافا لا يكاد يُذكر، ومع التطور تم إعادة توزيع التربية إلى أطراف أخرى قسرا، قد تكون لا علاقة لها بالأسرة، فأصبح التقليد لمجموعة الأقران هو الأقوى والأشد تأثيرا، وبات المثل القائل "الصاحب ساحب" هو السائد لفترة زمنية لا بأس بها، حيث كان ولي الأمر يذهب إلى مدرسة ابنه ليطلب من إدارتها أن يتم نقل ابنه إلى فصل آخر حتى لا يكون مع الطالب الفلاني لما وصل إليه من سوء أخلاقه.

ومع الثورة الصناعية الرابعة وتطور التكنولوجيا وتعدد التطبيقات والبرامج المختلفة أصبحت الاتصالات والأجهزة الذكية في متناول اليد، بل إنها باتت لا تفارق اليد إلا سويعات النوم النزق، وحتى نسكت بكاء الطفل نضع أمامه شاشة ذكية ومعها أغان أو مقاطع نعتقد أنها مسلية أو تعليمية، فأصبح ذلك الجهاز رفيق الطفولة، ويكبر الطفل وتعلقه بالجهاز يكبر معه، ومع النمو ينمو معه الإبحار في ذلك العالم الافتراضي، وبعد أن كان الصاحب قرينه في المدرسة، أصبح اليوم شخصية افتراضية قد تكون شخصا بالغا بأفكار هدامة، أو شابا يافعا بمعتقدات شاذة، أو ربما مُنظمة متطرفة، ويتمكن من خلال لعبة أو دردشة من التأثير على الطفل، وقد قرأنا عن حالات الانتحار لأطفال بسبب تحديات تتم خلال تطبيقات مختلفة في مختلف دول العالم، فضلا أنَّ هذه اللعبة أو تلك يتزامن معها إعلانات مختلفة خارجة عن الأدب والدين، فأصبحت هذه الأجهزة اليوم تشكل خطرا عظيما لما لها من تأثير عظيم على المتلقي بسبب الخوارزميات التي أصبحت تعرف توجه المستخدم لتلك الأجهزة فتمطره بكل ما يشغله عمَّا حوله، وترشقه بما يتوافق وأهوائه، فينسحب تدريجيا إلى عالم افتراضي لا وجود له واقعيا.

كانت فترة ما بعد صلاة العصر سابقاً في جميع القرى والمدن من أجمل فترات اليوم وأكثرها صخباً، حيث نرى الأطفال والمراهقين والشباب في كل حارة وحي يشكلون فرقا رياضية ويلعبون كرة القدم أو الطائرة، أو يركبون دراجاتهم الهوائية ذهابا وإيابا، أو يتراكضون في الأزقة والطرقات، ولا تجد أحدهم في منزله، لكن هذا المشهد غاب اليوم من الأحياء -إلا من رحم ربي-، لأن الأجهزة الذكية بأنواعها ألهتهم عن ممارسة النشاط البدني.

للأسف سينتج عن ذلك كله جيل هلامي، فلا هو تمسك بالقيم والمبادئ الدينية، ولا هو استغل مقومات التكنولوجيا المتسارعة في التعلم والتعليم والابتكار، جيل ينطبق عليه المثل العماني (شيلا بيلا، لا بيا ذيلا ولا بيا ذيلا)، وسيصبح رهينة لما يجده على جهازه الذكي من مشاهير يعشقهم ويقلدهم في تصرفاتهم وأزيائهم، ولعمري إذا استمر في هذا الدرب لضاعت الأمم ولتفككت اللحمة الاجتماعية بسبب التماهي مع الأفكار والعادات الشاذة والهدامة، لذا لابد أن تدق كل أجراس الإنذار في الأسرة والمدرسة والمجتمع كله، وليتكاتف الجميع لخلق الأنشطة التي تواكب العصر وتجذب الانتباه لكل شريحة عمرية.

 

------------------------------------------

 

توقيع:

صَديقٌ ليسَ ينفعُ يوم بُؤسٍ // قريبٌ من عدوٍّ في القيَاسِ.

وما يبقى الصَّدِيقُ بكلِّ عصْرٍ // ولا الإخوانُ إلا للتآسي.

عمرتُ الدَّهرَ ملتمساً بجهدي // أخا ثقةٍ فألهاني التماسي.

تنكرتِ البلادُ ومن بجهدي // كَأنَّ أُنَاسَهَا لَيْسُوا بِنَاسِ.

الإمام الشافعي.