مسعود أحمد بيت سعيد
خلّف الانسحاب المصري من اجتماع وزراء الخارجية العرب المنعقد في القاهرة قبل أسبوع، مواقف ودلالات ربما تكون أعمق من ظاهرها؛ حيث إن الاحتجاج على ترؤس السيدة نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية الليبية للاجتماع وشرعية تمثيلها، ما هو إلّا الشكل الذي أخرجته الدبلوماسية المصرية ذات التقاليد العريقة.
ومن المعروف أنَّ حكومة عبدالحميد الدبيبة المدعومة من الحكومة التركية وبعض الأطراف الغربية والإقليمية، لا تمثل من الناحية الشرعية الإرادة الوطنية الليبية؛ حيث انتهت مدتها القانونية ولم يعد لها صفة تمثيلية. وتعد الخطوة المصرية رفضًا ضمنيًا لفرض الأجندة التركية على الإجماع العربي. وعمومًا المناكفات المصرية التركية غير مقتصرة على الساحة الليبية، لكنها إحدى مواقعها الساخنة، وقد أدرك وفد الحكومة الليبية أبعاد تلك الخطوة ومغزاها الذي تُرجم جزء منه في قرار مجلس وزراء الخارجية العرب بإدانة التدخلات التركية في الشؤون الداخلية العربية وبتشكيل لجنة خماسية برئاسة مصر وعضوية العراق والسعودية والإمارات والبحرين، وقد امتنع الوفد الليبي المشارك عن التصويت، على غرار حلفاء تركيا الآخرين!! وليس بخافٍ أن القوى الإقليمية الوازِنة في الحسابات الإستراتيجية تخوض صراعًا على بسط خياراتها على عموم المنطقة، وحيث للآخرين مشاريعهم الخاصة وحجم تأثيرهم الذي تعاظم خلال العقدين المنصرمين ودائرة فعلهم الجغرافيا العربية، فإن الدور المصري يتراجع ومكانته تخفت في العقود القليلة الماضية بفعل سلسلة من الأخطاء؛ الأمر الذي أضعفها نسبيًا رغم عظمتها ودورها الإشعاعي والحضاري في محيطها العربي والفضاء الإفريقي والعالمي. ويرجح معظم المراقبين انكفاء الدور المصري لسببين رئيسيين: الأول خروجها من الصراع العربي الصهيوني عقب اتفاقية كامب ديفيد والذي أضعفها بخلاف التقديرات الخاطئة. والسبب الثاني: غياب مشروعها الواضح، وعندما نقول بالمشروع نقصد "المشروع العربي". واستحضار بعض المحطات ليس سوى تتبع لإمكانية استشراف دور مصر المقبل من خلال موقفها الأخير.
قد يقال إنَّ استجلاء رؤيتها المستقبلية من خلال موقف جزئي أمرٌ مبالغٌ فيه، والحقيقة أننا إذا توقف نظرنا عند اللحظة الراهنة قد يكون ذلك صحيحًا، لكننا نعتقد أن الانسحاب في جوهره دق ناقوس الخطر؛ حيث تستشعر مصر جديًا المخاطر في منطقة ملتهبة ومعرضة للتقسيم في ظل ما يعصف بالنظام الدولي من تحولات قائمة على فك وتركيب الكيانات استعدادًا لانبلاج نظام عالمي جديد. وكما أنَّ أكثر من طرف يعي هذه المراحل الانتقالية ويستغلها للتوسع والنفوذ، ومنها تركيا التي تسعى لإعادة تموضعها وبيدها ما يمكن أخذه من الجغرافيا العربية بناسها ومواردها والتي تراودها أحلام استعادة الإمبراطورية الوهمية التي لم تغادر عقليتها التوسعية.
هل توجد إذن مبالغة في الخطر التركي؟!
بعيدًا عن التاريخ، فإن الشواهد الحيّة تعزز مثل هذه الشكوك؛ حيث خيم الظلام على الأمة العربية طيلة العهد العثماني لمدة 4 قرون متتالية، ولا يحتاج الدور التركي الراهن للتنجيم وقراءة الفنجان! وقد أنعش ما سمي بـ"الربيع العربي" وصعود الإسلام السياسي هذه الأوهام، ونقلها إلى حيز الإمكانية الواقعية. وتركيا تُدرك الدور المصري في كبح أحلامها الوهمية، وأصبح من مكرور الكلام التذكير بدورها الوظيفي في خدمة أمريكا والحركة الصهيونية، وأن الموضوع ليس له علاقة بالدين لا من قريب ولا من بعيد، وإنما يُستخدم كسلاح للسيطرة على مقدرات الشعوب العربية ونهب ثرواتها بأقل التكاليف.