جمال بن ماجد الكندي
فاجأت حكومة صنعاء العالم بعرض عسكري كبير ومُنظَّم، وعندما نقول منظم بالنسبة لهذه الحكومة فهو إنجاز بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهي في حرب منذ سبع سنوات مع جبهة داخلية مدعومة خليجيًا وأمريكيًا، ومحاصرة برًا وبحرًا وجوًا، فهذا العرض العسكري أذهل الصديق قبل العدو، وأرسل رسائله للداخل والخارج وسنُحاول قراءتها ووضعها في ميزان المقارنة السياسية والعسكرية.
فقبل عدة أيام شارك ما يقارب 25 ألف جندي في عرض عسكري كبير، وهذا الرقم لا يُستهان به، فتجميع هذا الرقم في أيام السلم يحتاج إلى وقت وتنظيم وانضباط، فما بالك بدولة مزقتها النزاعات العسكرية ذات الولاءات الداخلية والخارجية، فهذا الأمر يقرأ سياسيًا وعسكريًا بقوة وتماسك الجهة التي نظمت هذا العرض وبأنها طرف مهم جدًا في المُعادلة اليمنية الجديدة، فبدونه لا استقرار ونهاية لحرب اليمن.
العرض العسكري لم يكن فقط بإظهار الجانب العددي، بل تعدى ذلك بظهور أسلحة جويةً وبحرية تعول حكومة صنعاء عليها لتغيير الواقع في السواحل اليمنية، وكانت منطقة "الحديدة" البحرية الرسالة الأولى لهذا العرض مفادها بأن سواحلنا البحرية ليست للمساومة، فهي تحت سقف الوطن الذي جاءت حكومة صنعاء من أجل وحدة ترابه، تحت راية دولة الاستقلال الوطني التي هي لكل اليمنيين، كما تقول هذه الحكومة في حواراتها السياسية، والسواحل اليمنية هي جزء لا يتجزأ من معادلة اليمن الموحد. فكان العرض العسكري في "الحُديدة" ذات الموقع الجغرافي المهم في الساحل الغربي رسالة يفهمها الخارج أننا ما زلتا مسيطرين على الوضع بعد كل هذه الاستهدافات الجوية والمعارك البرية التي واجهت حكومة صنعاء في "الحديدة" خلال الأعوام السبع الماضية وفي غيرها.
هذا العرض أرسل رسائل للداخل يقرأها الخارج، وهي في وحدة الصف لدى حكومة صنعاء، ففي بلد مثل اليمن عندما نذكر هذه الكلمة نعني اتفاق القبائل اليمنية في الشمال، فمن يحكم اليمن هي قبيلة من قبائل اليمن لا تملك الأغلبية العددية بالمقارنة مع القبائل الأخرى في الشمال، وهذا يعني أن هناك اتفاقا معها تحت عنوان واحد وهو دولة "الاستقلال الوطني"، فمنذ مقتل الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، لم يشهد الشمال الكائن تحت سيطرة حكومة صنعاء أي نزاعات عسكرية كبيرة مثل ما يحصل في صفوف من يقاتلون حكومة صنعاء، فهم لهم ولاءات خارجية مختلفة تسيرها أجندات هذه الدول، وما حصل ويحصل في شبوة وأبين في الجنوب ترجمة لهذا الأمر؛ فالمجلس الرئاسي الذي شكل بعد إبعاد الرئيس منصور هادي عن المشهد السياسي في اليمن يتصارع عسكريًا فيما بينه، فهذا المجلس خليط غير متجانس، يملك أجندات مختلفة كلمة السر فيها من الخارج؛ لذلك أظهر العرض العسكري لحكومة الإنقاذ اليمنية مدى قوة تحالف الشمال، بالمقارنة مع المجلس الرئاسي الثماني الجديد.
لذلك فالحوار السياسي مع حكومة صنعاء أصبح مطلبًا إقليميًا وعربيًا وعالميًا، إذا أراد العالم لهذا البلد الاستقرار السياسي، فالاستقرار في هذا البلد هو مكسب للجميع في الداخل والخارج، ولكن وفق معادلة "اليمن الجديدة" بإشراك قوةً فعالة سياسيًا وعسكريًا لها مطلبها التي تغرد بها خارج سرب أمريكا وحلفائها في المنطقة، وهو ما يسمى باليمن الجديدة.
إن الوجود السياسي الكبير لحكومة صنعاء في هذا العرض بحضور رأس هرمها السياسي مع القيادات القبلية المتحالفة معها، ثبت منظومة الردع الاستراتيجية التي بنتها حكومة صنعاء خلال سنوات الحرب، فلم يجرؤ أحد في الداخل اليمني والخارج على استهداف هذا الحشد الكبير، وهذا الأمر يقرأ سياسيًا وعسكريًا بأنه اعتراف بما وصلت إليه حكومة صنعاء من قوة عسكرية، وتماسك سياسي يخطب وده دوليًا من أجل إنهاء هذه الأزمة.
من هنا يبرز الوسيط العماني الذي يمارس منذ بداية هذه الأزمة الحياد الإيجابي، ويقف على مسافة واحدة من فرقاء هذه الأزمة، ولا يعيبه أنه يقدم المساعدات الإنسانية للجميع بلا استثناء، فما زال الوسيط العماني مقبولًا ومرحبا به في الداخل اليمني وفي الخارج، وكل المحاولات لشيطنة هذا الوسيط باءت بالفشل، فهناك أقلام مسمومة يمنية وغير يمنية تحاول أن تضع سلطنة عمان في دائرة الدول التي تدعم عناصر يمنية مُعينة عسكريًا تحت عنوان "الأمن القومي"، والخط العماني في الأزمة اليمنية هو من الثوابت والاستراتيجيات الخارجية التي لا تتغير، فهي الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تشارك في حلف الحرب على اليمن، تحت أي ذريعة كانت وحافظت على حيادها الإيجابي في هذه الأزمة.
سلطنة عُمان تقرأ جيدًا المشهد السياسي والعسكري في اليمن وتدرك مدى قوة وتماسك حكومة صنعاء؛ لذلك فهي تتواصل مع حكومة صنعاء وتسعى لتقريب وجهات النظر بين فرقاء هذه الأزمة ومن يدعمهم من الخارج، فاستقرار اليمن هو استقرار للمنطقة لما تملكه اليمن من موقع استراتيجي مهم في الجغرافيا البحرية والبرية للمنطقة، فهي تؤثر على دول جوارها وسلطنة عُمان واحدة من هذه الدول.
ختامًا.. فإنَّ العرض العسكري الذي كان في الحديدة، قال كلمته بإظهار القوة العسكرية والسياسية لحكومة صنعاء، ومدى سيطرتها على الأرض، فبعد سبع سنوات من الحرب ما زالت هذه الجبهة قوية لها مطالبها السياسية التي لم تتنازل عنها، وسنوات الحرب لم تستطع كسرها، وهذا يجعلها تفاوض من منطق قوة، والعرض العسكري جاء ليثبت ذلك.