مؤيد الزعبي
نسمع كثيرًا عن اقتصاد المعرفة أو الاقتصاد المعتمد على المعرفة ولكن ربما يجهل الكثيرون ماهية هذا الاقتصاد، وكيف له أن يُغير من خارطة القوى الاقتصادية العالمية، وكيف يمكن لاقتصاد المعرفة أن يكون الطريق المنقذ للعديد من الدول؛ باختصار شديد اقتصاد المعرفة اقتصاد من لا اقتصاد له، ففيه الحل ومنه الحلول جميعها.
كبريات الشركات العالمية قامت ونشأت على فكرة بسيطة لبت احتياجات شريحة من الناس أو قدمت لهم خدمة في مجال معين فأصبحت شركات عملاقة توازي بحجمها وقوتها اقتصادات دول بأكملها، والتجارب في عصرنا الحالي كثيرة وعديدة فعرصنا عصر المعرفة، ومن يمتلك المعرفة ويسوقها بالشكل الجيد سيجني الكثير من الفوائد. ولو تفحصت كبريات شركات التكنولوجيا أو شركات الخدمات فستجد بأن خدماتها بالكامل، ما هي إلا معرفة تباع بأغلى الأثمان، فما هي شركة مثل "جوجل" أو "أبل" أو "ميتا" (المالكة لفيسبوك) سوى معرفة أو خدمة وبفضل هذه المعرفة أصبحت هذه الشركات من كبريات الشركات العالمية.
ولكي تصل الفكرة بشكل صحيح وعميق، لنأخذ دولة مثل الصين كمثال عملي على تأثير المعرفة على اقتصادها، فخلال العشر سنوات الماضية بدأنا نشاهد شركات صينية عملاقة تظهر على الساحة الدولية بشكل كبير ولافت، وجميع هذه الشركات تتشارك في المعرفة كرأسمال لها، فشركات مثل "هواوي" و"علي بابا" و"تنسنت" و"تيك توك" و"كاتل" جميعها قائمة على الابتكار والذكاء، وبلغة الأرقام، فإن حجم سوق الذكاء الاصطناعي في الصين مثلًا يقدر بحوالي 25 مليار دولار، وحجم السوق المرتبط بالذكاء الاصطناعي يصل لـ148 مليار دولار.
هذه الأرقام توضح لنا جزءًا بسيطًا من قيمة المعرفة ماليًا، وكيف لها أن تكون مصدرا مهما لتعزيز القدرات الاقتصادية، خصوصًا وأننا في زمن تثمن الأفكار الجيدة والجديدة والمبتكرة، وكلما كانت المعرفة مرتبطة بعلوم المستقبل والعلوم المتقدمة والتقنيات الحديثة كلما كان ثمنها أغلى وأكبر.
لك أن تتخيل- عزيزي القارئ- أن فكرة بسيطة قد تبني اقتصاد دولة بأكملها، ولك أن تتخيل أن دولة بأكملها تعتمد في اقتصادها على نوع واحد من الإنتاج أو المنتوجات ولكن تبدع في هذا الأمر وتسخر جميع الإمكانيات والقدرات لتجعل من نفسها لاعبًا مهمًا في هذا المجال، وربما سمعتم عن صناعة الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات وكيف يتحكم هذا القطاع في الاقتصاد العالمي، وبالتأكيد سمعتم عن تجارة الخدمات وكيف غيرت الخدمات من خارطة الإنتاج العالمي، ولو تفكرنا قليلًا لوجدنا أن هذه الخدمات لا تحتاج لموارد أو لأصول ثابتة؛ بل تحتاج لابتكارات تعطيها الأفضلية وتجعل منها منافسًا متميزًا.
هناك قطاعات مهمة معتمدة بشكل رئيسي على المعرفة، مثل قطاع الطب وصناعة الأدوية، وكيف لقوة الأبحاث والعلم في جلب أموال طائلة لأصحابها وللشركات المعتمدة عليها، فكلما زادت معرفتنا في هذا المجال، كلما استطعنا توفير علاجات وأساليب علاجية تحمي الأرواح من جانب، وتجني الأرباح من جانب آخر.
وأيضًا اقتصاد الفضاء وكيف يتطور هذا القطاع وكيف سيلعب دورًا مهمًا في الاقتصاد العالمي في قادم السنوات، وكلما أسرعنا وابتكرنا تقنيات توصلنا للفضاء وتعزز من قدراتنا في استغلال موارده كلما حققنا أرباحًا أكبر. وأيضًا قطاعات البرمجة والأمن السيبرالي وأنظمة الاتصالات والشبكات والتجارة الإلكترونية والميتافيرس والعملات الرقمية والطاقة المتجددة جميعها تعتمد على اقتصاد المعرفة وجميعها اقتصادات مستقبلية ستعود بالفائدة الكبيرة على الدول والشركات التي تعزز من قدراتها وتستثمر في هذه المجالات بشكل عملي ومدروس.
في وقت تعاني فيه الكثير من الدول من ضعف في الموارد الطبيعية أو المقومات الاقتصادية التي تجعلها في قائمة أهم الاقتصادات العالمية يأتي دور اقتصاد المعرفة أو الاقتصاد المبني على المعارف والعلوم والابتكارات ليغير موازين القوى ويخلق الفرص المفقودة والتي يبحث عنها الجميع في هذا العالم. وكلما كانت هناك عقول وشركات قادرة على انتاج المعرفة، كلما زادت الفرص الاقتصادية؛ فالمعرفة في عصرنا هي رأس المال الحقيقي والمعتمد عليه الكثير من اقتصادات الدول الناجحة. واليوم قد نقول إنه لا يهم حجم وموارد أي دولة بقدر ما هو مهم استثمار هذه الموارد وابتكار أساليب معرفية لتطوير القطاعات ورقمنتها للوصول للاستغلال الأمثل للموارد أو خلق فرص لم تكن موجودة أصلًا بفضل العلم والمعرفة والابتكار.
اقتصاد المعرفة سيخلق لنا الكثير من الفرص ويعزز من قدرات المؤسسات والشركات والدول في تدعيم وتنمية وتنويع اقتصادها وجعله قادرًا على مواجهة المتغيرات المستقبلية التي تعتمد على العلم والمعرفة والابتكار والذكاء ولا شيء غير ذلك، فحتى مجالات الاقتصاد التقليدية ستعتمد على المعرفة والابتكار بشكل أكبر في قادم السنوات ومن الواجب أن نواكب تفكيرنا وتفكير مؤسساتنا وشركاتنا وأنظمتنا وقراراتنا لتتوافق مع هذه المتغيرات لنزيد من فرصتنا لاقتناص الفرص، لنكون لاعبين مؤثرين في الاقتصاد المستقبلي.