رجل من زمن الطيبين

 

خالد بن سعد الشنفري

 

 

تجاوز عمره الخامسة والتسعين ولازال يعيش حياة كلها أمل وتفاؤل كشاب في مُقتبل العمر.. شتان بين ما يعيشه وبين ما وصف به حكيم شعراء الجاهلية زهير بن أبي سلمى حياته بعد وصوله سن الثمانين حولا من العمر وذلك في مُعلقته الشهيرة وبيت الشعر الأشهر بها: "سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسئم".

ما زال شيخنا الوقور بكامل تفاؤله بالحياة رغم دخوله النصف الثاني من عقده العاشر ومئويته العمرية ولم يعرف اليأس إليه طريقا.. فلطالما كان راضيا بما قسمه له الله وشاكرا لله.. فهو قد عاصر أربعة من سلاطين عمان وكله حياة وتفاؤل وإيمان، أطال الله في عمره وأبقاه ومده بالصحة والعافية.

جده الثاني لم يرزقه الله من الخلفة إلا ولد واحد وجده الأول لم يخلف أي من أبنائه إلا واحد وكذلك أبيه الذي لم ينجب غيره.. ولد وترعرع في مزرعة أبيه وأجداده من قبله الشهيرة في غارف الحافة في العقد الثاني من القرن الماضي.. فحافظ على هذا الإرث وتمرس في أعمال الزراعة وشؤونها حتى أصبحت المزرعة من أشهر مزارع الحافة إنتاجا وأصبح من الرجال المشهود لهم في عالم الزراعة التي تقوم عليها حياة الظفاريين آنذاك، بالإضافة إلى البحر والتجارة وكان عارفا بأوقات زراعة كل نوع من المحاصيل وكذا مواسم ونجوم الزراعة والأصناف التي تزرع والتي كانت في معظمها تتمثل في الحبوب كالذرة بنوعيها وحبوب المسيبلي والبمبي والعلس وغيرها من القطن الظفاري الشهير الذي كان يسد الاستهلاك المحلي ويصدر للخارج والقصب والفواكه والخضروات التي تشتهر بها ظفار.

عُرف عنه منذ صغره الفطنة والذكاء والحفظ فقد كان يحفظ القصائد الطوال عند سماعها لمرة واحدة ولا يزال يحتفظ بكل ذلك في ذاكرته إلى يومنا هذا.. كل هذا ليس إلا فيضا من غيض، مما يعرف به شيخنا الوقور العم جمعان بن عبد الكريم بن أحمد بن سالم بن طاهر باوزير (بن صافية)، فإضافة إلى عمله بالزراعة اشتغل أيضا بالبحر والضاغية والسردين (العيد) ومُلمًا بسنن البحر ومارس مهنة النقل بواسطة الجمال التي كان ينقل عليها البضائع من ميناء ريسوت إلى المدن وكذلك نقل أحجار وطين البناء وغيرها، واشتهر بالعمل على الجمال فيما كان يعرف بالرقايا محليا أو الهودج لنقل النساء لمناسبات الأعراس وإلى الجبل والأماكن البعيدة، وكان يحظى بثقة أهالي المنطقة لأمانته وحميد أخلاقه التي عرف بها وقد أكسبه كل ذلك خبرة كبيرة في الحياة ومعرفة بالناس وأصبح من النسابين ويكفي أن تذكر له اسمك واسم أبيك وأمك ليخبرك بشجرة عائلتك وأنسابك ليس بالنسبة لأبناء المدن فقط بل الجبل والبادية أيضًا.. ما زال بعد طول هذا العمر في كامل قواه العقلية وكامل دماثته وخلقه وابتسامته المعهودة مع كل من يقابله.

خبراته التي حصلها طوال كل هذه السنين والتي اشتملت على الزراعة والبحر والرعي والتجارة، جعلت منه مُلمًا بمعظم عادات وتقاليد ظفار وأيضا موروثها المروي، ويعتبر منهلًا للأخذ منه لا ينضب، إلا أنه أصبح من الواجب، ولزامًا على المؤسسات المعنية بهذا الشأن والمهتمين أن يحرصوا على تدوين وتوثيق وتسجيل هذا الإرث، ما دام صاحبه ما زال يعيش بين ظهرانينا وعاصر كل ذلك، ويتمتع بالرصانة في حديثه ومنطقه وبتلك النبرة الموسيقية الرصينة في مخارج حروفها وتشدك للاستماع والاستمتاع بها، خصوصًا بعد أن تلونت ألسننا ولهجتنا نحن جيل من عاشوا جزءًا من تلك المرحلة من حياتهم في ذلك الزمن الجميل "ليس من عاش وشاهد كمن سمع"، أما أبناؤنا وأحفادنا فقد أصبح لسانهم يلوك ويتلوى بكوكتيل لهجات عربية وحتى إفرنجية والعياذ بالله. وهنا أتقدم بالشكر الجزيل لقناة البيداء التي استضافته في إحدى حلقاتها الثرية (رابط الحلقة موجود في آخر المقال).

الحمد لله أن العم جمعان قد رزق بخمسة من الذكور وست من الإناث وأحفاده وأحفاد أحفاده اليوم بالعشرات، وقد قيض الله له مؤخرا واحدا من أوسط أبنائه هو الزميل العزيز حامد (أبو حسام) وألهمه ميزة الاهتمام بالموروث اللغوي ومورث العادات الاجتماعية الظفارية والإبداع في ذلك، وكنتيجة لالتصاقه بالوالد والأخذ منه تمكن أبو حسام من رفد المكتبة الظفارية إلى اليوم بثلاث إصدارات كتب في منتهى الأهمية لكل الأجيال كان أولها في العام 2011 بعنوان قصائد المقود أو السناوه (قصائد تصاحب سقي المزروعات من الآبار بواسطة الجمال) التي يحفظها العم جمعان عن ظهر قلب إضافة لشعر شعراء الزامل والهبوت القديمة الشهيرة..ففي العام 2020 صدر له كتاب الدارجة الظفارية في أكثر من ثلاثمائة صفحة وأخيرا في العام 2022 كتاب الحياة الاجتماعية في ظفار.

وفق الله الأخ حامد وأطال بعمر العم جمعان. هناك رجال كالنخل يتشبثون بالأرض ويطاولون السماء ارتفاعا.

*************

رابط قناة البيداء