"اتركوا أطفالنا وشأنهم"
د. صالح الفهدي
"الأم امرأة والأب رجل واتركوا أطفالنا وشأنهم!" بهذه العبارة ختم رئيس وزراء المجر(هنغاريا) فيكتور أوربان حديثه على خلفية التعديلات الدستورية التي أقرتها دولته مخاطبًا ما يسمَّى "مجتمع الميم" أي مجتمع الشذوذ، إثرَ رياح الانحطاط الأخلاقي التي تسودُ أوروبا، وتفرضُ على دولها إقرار تعديلات لإدخال مفاهيم خارجة عن الفطرة البشرية على الأُسرة.
باتت أوروبا اليوم تتحدث عن "القيم الديمقراطية" التي تحدَّاها الرئيس المجري، والتي تأتي الحرية الجنسية الشاذة في مقدمتها، ثم تفرضها على جميع أعضاء الإتحاد الأوروبي مخالفة بذلك شعاراتها التي ترفعها للدفاع عن حرية الرأي والتعبير..!! بل أن الإتحاد الأوروبي الليبرالي قد فرض عقوبات على المجر لأنها منعت ترويج الشذوذ في المدارس، وذلك بعد أن سنَّت قانونًا يحظر الترويج للشذوذ الجنسي وتغيير الجنس لمن تقل أعمارهم عن 18 عامًا في يونيو 2021، وقد صرَّحت المفوضية الأوروبية بأنها "قد تستخدم الصلاحيات الممنوحة لها لمعاقبة المجر"، في حين قابلها وزير الخارجية المجري بتصريح "بأن بلاده لن توافق على زيارة منظمات حقوق المثليين للمدارس للترويج لأجنداتها، وبأن في ذلك تعديًا على حق الوالدين في تربية أبنائهما"..
اللافت للنظر أن المجر قد سنَّت قانونًا بحظر الشذوذ الجنسي للأطفال فقط، ومع ذلك تواجهها المفوضية الأوروبية بعقوبات وتحذيرات بالطرد من الإتحاد الأُوروبي..!
تشهد أُوروبا تناقصًا حادَّا في أعداد المواليد، وشيخوخة المجتمع في المقابل، فالمقارنة كبيرة بين زيادة أعداد الوفيات، وتناقص أعداد الولادات..! الأمر الذي عناهُ السياسي والكاتب الأمريكي الشهير باتريك جيه بوكانن في كتابه "موت الغرب" حين عزا ذلك الموت إلى سبيين رائيسيين؛ هُما: موت أخلاقى بسبب السقوط الأخلاقى، الذى ألغى كل القيم التربوية الأسرية والأخلاقية التقليدية، وموت ديموغرافى وبيولوجى، النقص السكانى بالموت الطبيعى.
أوروبا أضاعت الأُسس الصحيحة التي يقوم عليها كيانُ الأُسرة؛ إذ لم يعد الزواج مهمًا بالنسبة لها، وبالتالي تضاءل الإنجاب تبعًا لذلك لعدم الرغبة، ولا شكَّ أن تبنِّيها لقوانين إباحة الشذوذ في مفاهيم الأُسرة كان له هو الآخر آثاره على تضاؤل نسبة السكَّان في أُوروبا، الأمر الذي دفع دولًا كالمجر (هنغاريا) إلى دفع مبالغ مُجزية للتشجيع على الإِنجاب..!!
ونحن لا يعنينا غيرنا بقدرِ ما تعنينا مجتمعاتنا، إلاَّ أن المجتمعات الغربية التي تتجه نحو الإنحدار الأخلاقي لن يهدأ لها بال حتى يعمَّ الإنحطاط بقية شعوب العالم، ولهذا فقد تقصَّدت ضرب مراكز الإهتمام في العالم وعلى رأسها: الدِّين، والأُسرة، والتعليم، والرياضة، والأسواق، والحريات العامة، وحقوق الإنسان، بيدَ أن أعظم التركيز ينصبُّ على الأطفال الذين تتلقى عقولهم البضَّة هذه الأفكار الخبيثة من خلال مدارسهم وهذه من أشدِّ الضربات الموجعة؛ أن تكون صروح التنوير العقلي هي البؤر الفاسدة التي تحرِّض على الإنفلات الأخلاقي، ولعل قصَّة الأب الكندي الذي عارض تحوُّل طفلته إلى ذكر في إحدى المدارس الكندية أصبحت معروفة، حيث اعترض على هذا التوجُّه فتم تهديده إن استمر في معارضته، وإن نادى ابنته باسمها الذي أطلقهُ عليها في أن يتم إلقاءُ القبض عليه وإيداعه في السجن، وهذا في البلدان الليبرالية التي ترفع شعار حرية الرأي والإختلاف كحق من حقوق الإنسان..!!
نقولُ إن علينا واجبٌ يتعاظم اليوم أكثر من أي وقتٍ كان نحو تربية أطفالنا التربية الحسنة التي تقويهم في وجه الرياح العفنة القادمة من الغرب، وليس هذا فحسب؛ بل وتصوِّب وعيهم نحو التفريق بين الصحيح والخطأ، والغثِّ والسمين، ولا يتم ذلك إلا بإعلاءِ قيمة القيم في نفوسهم، ورفع معاييرهم الأخلاقية، وإذكاء تطلعاتهم بالصور الذهنية السامية الأهداف، الجليلة المرامي.
إن على المجتمع أن يُدرك تمامًا أن دفاعه عن أي شخصٍ مختلِّ الأخلاق، منحط الأدب إنما يبعثُ برسالة إلى النشء أن سلوكَ هذا الإنسان لا غُبار عليه، ولا يفترض توجيه الإنتقادِ نحوه، مما يعني أن المجتمع يُساهم في صناعة قدوات التافهين، وفي المقابل تهميش القدوات الصالحة التي تصبحُ في نظر النشءِ لا قيمة لها مع مرور الوقت..!!
ولا ريب أن المنظمات العالمية التي تقود الإنحطاط والشذوذ، إنما تراهن على تغيير نمط التفكير لدى النشء القادم، الأمر الذي يُلقي علينا جميعًا مسؤولية عظيمة نحو هذه المهددات العظيمة لأجيالنا إن لم نحصِّن هويتنا من الذوبان والإنحناء في وجه الرياح العاصفة.
وإنني لأجدد هُنا الفكرة القديمة التي كادت أن ترى النور وهي "المجلس الأعلى لرعاية الطفولة" الذي لا شك أن وجوده مهم جدًا لإرساء قواعد التربية والتعليم اللازمين للطفولة، ووضع البرامج المناسبة لإنشاء أجيال سليمة من المؤثرات، ترسخ فيها القيم، وتنمَّى فيها الأخلاقيات، وتحصَّن أذهانها من كل المهددات.