د. عبدالله باحجاج
تكمُن هذه المُفاجأة بثنائياتها المشار إليها في عنوان المقال في إنتاج النجد بمحافظة ظفار، مختلف أنواع التمور وبجودتها العالية، كل أنواع التمور (البرجي ونبوت سيف والخلاص والنغال والخنيزي والصعقي والفرض والهلالي والمجدول والبونارنجه) وبكميات تجارية؛ وبذلك تكون أراضي النجد الزراعية التي تمتد لأكثر من 40 ألف كيلومتر مربع صالحةً لاستيعاب مختلف المزروعات والمنتجات المحلية والإقليمية بل والعالمية، وهذا انكشاف نستنطقه بصوتٍ مُرتفعٍ، ونتمنى لو كان بكل لغات العالم، وهذا يُجدد إيماننا وبكل ثقة بخيرية أرضنا، والمطالبة بتقديم مختلف أنواع الدعم الحكومي للمواطنين الجادين الذين يحققون الإنجاز؛ بل الإعجاز الآخر تلو الآخر.
فبعد أن جادت منطقة النجد بمحاصيل الحبوب كالقمح والذرة، وكذلك البطيخ والشمام والطماطم والليمون والجوافة والرمان والتين والبصل والثوم والفلفل والبطاطس والكوسة والبامية والباذنجان، وحققت في الكثير منها الاكتفاء الذاتي، وبددت قلقنا من زمن المجاعات الآتي، تنتقل الآن إلى إنتاج مختلف التمور- كمًا ونوعًا- وهذه القصص الناجحة بجهود المواطنين. ففي إحدى هذه المزارع مثلًا، يوجد 1200 شجرة من نخيل التمور، وهذه السنة 600 نخلة مُثمرة، تقدر بحوالي 300 طن سنويًا، ويُتوقع أن تصل إنتاجية هذه المزرعة إلى 800 طن في السنوات القادمة. هذه فقط مزرعة واحدة من مجموع 111 مزرعة لمواطنين تحتوي 60 ألف نخلة تمر، وفق إحصائية أعدتها الجمعية الزراعية بظفار عام 2019. ومن المؤكد أن عدد نخيل التمر أكبر الآن.
هذه الإنجازات المتتالية والمتعاظمة في النوع والكم بجهود المواطنين الذاتية، تخطيطًا وإنتاجًا وتمويلًا، فكيف لو دُعِّمُوا ووُجِّهوا، واقترن ذلك بسياسة دعم حكومية واضحة وصريحة ومؤثرة، وهذا لن يتأتى إلّا إذا عومل قطاع الزراعة وملف أمننا الغذائي بعيدًا عن السياسة المالية للدولة، التي يطغى عليها نظام الجبايات حصريًا، فهناك قطاعات في الدولة ينبغي أن يُشكل نظام الجبايات فيها خطًا أحمرَ؛ لأن وراءها حمولات ثقيلة وتصب في أمننا الاجتماعي والغذائي. وحتى الآن، لم نرَ أن هناك وعيًا ماليًا بهذه الخطوط الحُمر؛ لأن وراءها إدارة مالية خالصة، ومتجردة من كل الأبعاد والحمولات، ما عدا تدخلات سياسية بين الفينة والأخرى للفئات الاجتماعية الأكثر ضعفًا. وحتى هذا النوع من التدخل يؤخذ عليه حتى الآن عدم وجود حماية متكاملة لهذه الفئة، رغم أننا لو بحثنا في مفهوم "الأكثر ضعفًا" أو تأثرًا من التحولات الجديدة، سنجد أن الأغلبية المجتمعية تقع فيه؛ لأن الفوارق المعيارية- وهي مالية حصرًا- محدودة جدًا.
لذلك.. لدينا سياسة مالية غير عاقلة بالجوانب الأمنية بشقيها الاجتماعي والغذائي، وتتحتم عقلنتها الآن بعد أن تجاوزت بلادنا- ولله الحمد- المخاطر المالية، وتحولت إلى فوائض مالية بسبب الطفرة النفطية الجديدة، وارتفاع أسعار الغاز، وبعد أن ارتفعت ثقتنا بمستقبلنا الاقتصادي في ضوء اتجاه الدولة نحو الاقتصاد الهيدروجيني ومصادر إنتاجية أخرى واعدة. ولذلك، فالحاجة الملحة الآن تشير إلى المراجعة المتكاملة للسياسة المالية، خاصة أدواتها المالية التي تعيد صناعة المجتمع بروابط راديكالية غير مسبوقة. وقد نتناولها في مقال خاص..
والأهم في هذا المقال، أن نجاحات المواطنين في النجد، ينبغي أن تقود مسارات التحول في السياسة المالية بصورة عقلانية وبمعايير حاكمة للنجاح في النجد، ومعززة مستقبل أمننا الغذائي. لكن يبدو لنا الاستدراك الحكومي الأخير- رغم أهميته- أنه دون الطموحات، وأنه بعيد عن الاعتداد بالظروف القاسية والمناخ في صحراء الربع الخالي، رغم بعض نتائجه الإيجابية. فقد انتقل الفكر المالي الطاغي على مسيرنا الوطني من المدينة إلى الصحراء، وعوملت الصحراء بآلياته وميكانزماته، في وقت ينبغي تحرير الزراعة في النجد من هذا الطغيان؛ لأنه أمان مستقبلنا ولأنه جهد شاق ومرهق ومتعب لا يُقارن بغيره، ولا يعامل أسوة بنظيره في أمكنة داخل المدن أو في أية بقعة غيره.
ففاتورة الكهرباء ما زالت مرتفعة، وهي من أكبر المعوقات للانطلاقة الزراعية في النجد، وعوضًا عن تمليك المزارع للمواطنين الذين اقتحموا الصحراء في الثمانينيات من القرن الماضي، استُحدث نظام عقود الانتفاع بالرسوم المعقدة، فهنا على الأقل كان ينبغي أن تُعفى المزارع الجادة منها، تشجيعًا واعترافًا بما يحققونه للوطن من منتجات زراعية فوق التوقع- كما أوضحنا ذلك سابقًا. وهنا لا نُنكر الاهتمامات الحكومية الجديدة بمنطقة النجد الزراعية، وبالذات إقامة مُؤسسة تعنى بها- تنظيمًا وإدارةً وتطويرًا- تابعة لإشراف وزاري مباشر، وتولي المسؤولية أطر وكوادر مساعدة وليست معرقلة، ومؤمنة بإمكانيات النجد الزراعية، ودورها الوطني المتعاظم، لكنها ليست كافية.. هكذا يبدو لنا الواقع الآن بعد إنتاج مختلف أنواع التمور نوعًا وكمًّا.
المزارعون يحتاجون لدعم متعدد الأشكال، فإضافة إلى ما سبق ذكره، هناك حاجة إلى قروض دون فوائد وعلى المدى الطويل، بشروط تحقيق نسب مئوية سنويًا لمنتجات ومحاصيل أساسية للأمن الغذائي، ولدواعي تعميم التحول للزراعة الحديثة المستدامة. كما إن النجد يحتاج لاستثمارات جهاز الاستثمار العماني؛ لإقامة مصانع لوجستية للزراعة، وغيرها، ومثل هذه المقترحات أصبحت الآن حقوقًا مشروعة بعد أن أثبت المزارع الجاد في النجد أنه يستحقها بجدارة، والدليل إنجازاته سالفة الذكر، واستمراره من الثمانينيات وحتى الآن، وهو يقدم لنا النجاحات المتتالية والتاريخية، لم تثنه الشمس الحارقة، ولا المناخ القاسي.
هنا نوجه حديثنا إلى صنّاع النجاح في النجد، ونقول لهم، من حقكم أن تشعروا بفخر نجاحاتكم المتواصلة والمتتالية والمتصاعدة التي تسطرونها بجهودهم وأموالكم، فصحراء الربع الخالي لم تخيبكم، وكانت وفيّة لجهودكم، وتقف معكم الأقدار في كل الأوقات، ولو أبحرت في بحور الثناء، فمن المؤكد أنني سأغرق في نسيان بعض الشخوص الذين كان لهم السبق التاريخي أو المتوالي في اقتحام الصحراء لزراعتها في سبعينيات القرن الماضي، والذين حفروا بسواعدهم الصحراء حتى تفجرت معجزة المياه فيها، وقد رحلوا عن دنيانا وتركوا خلفهم تركة الطموح والتحدي في أحفادهم الذين وجدوا أنفسهم في أوائل الثمانينات يواصلون اثر الأولين، رحم الله من مات، وجعل الله عملهم يثقل ميزان حسناتهم.
والشكر والتقدير الرفيعان للأحفاد الذين يُسجل لهم التاريخ إصرارهم على النجاح حتى في الأوقات الصعبة، عندما كانت الجرافات الحكومية تبدأ بهدم بعض مزارعهم، وساقت لهم الأقدار أن يكون من حسنات جائحة كورونا وقف الهدم، وتغيير المفاهيم والرؤى للنجد بصورة راديكالية، وكُلنا ثقة بأن التسهيلات قادمة؛ لأنه ليس أمام بلادنا من خيارٍ داعمٍ وقوي لمُستقبل غذائنا سوى النجد في محافظة ظفار.