المشاهير

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

تابعنا خلال الأيام الماضية السجال الذي لا ينتهي الذي قاده مجموعة من المنتقدين لرواد وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة أصحاب عشرات الآلاف من المتابعين عبر "سناب شات" و"إنستجرام" و"تويتر"، فهناك من يريد أن يرجع بنا إلى الوراء خطوات ويُقيِّد هؤلاء المشاهير ويحدد تراخيص لحساباتهم- كما هو الحال- في بعض الدول المجاورة؛ ويضع ضرائب على دخلهم من هذه الوسائل التي أصبحت تقدر بأرقام كبيرة حسب بعض المصادر.

يجب أن يدرك الجميع أن هذه المنصات التي جادت بها شبكة الإنترنت العالمية التي تتولاها الولايات المتحدة الأمريكية منذ انطلاقها قبل عدة عقود؛ ليست ملكًا لأي دولة أخرى ولا هبة منها؛ بل إن هذه القنوات أصبحت من سمة العصر ونافذة لحرية التعبير ومنبرًا للإعلام الحُر في هذه الفضاءات الواسعة. وقد مكنت هذه المنصات الأجيال المتعاقبة من ثورة الاتصال وإمكانياتها المتطورة، والتي تتميز بالسرعة والقدرة على الوصول إلى مختلف أرجاء الكرة الأرضية، حاملةً في طياتها الصوت والصورة اللذين مزجتهما التكنولوجيا العابرة للقارات بألوانها البديعة ورسائلها ومضامينها الموجهة والتي أتقنتها الأنامل المولعة بعوالمها الجديدة، المتمثلة في المنصات الافتراضية، والتي أصبحت تتجاوز في عددها العشرين منصة، ومعظمها أمريكية الصنع والهوى؛ باستثناء "وي شات" (weChat) و"تيك توك" (Tik Tok) اللذين أضافتهما الصين الشعبية إلى قائمة وسائل التواصل الاجتماعي ذات الانتشار الواسع على مستوى مستخدمي هذه الوسائل الجديدة التي غزت كوكبنا وسيطرت عليه بلا منازع.

وفتحت شبكة الإنترنت آفاقًا جديدة للبشر للولوج إلى هذا العالم الرحب للتواصل بين أطرافه؛ بهدف التعبير عن الذات من خلال خطابات تختلف في غاياتها ومضامينها من شخص إلى آخر، فهناك الغث والسمين في هذه المنابر المجانية التي أبهرت المرتادين العاديين من جمهور المتابعين، وكذلك من مشاهير رواد هذه القنوات الاجتماعية الذين يصنعون المحتوى الذي يتميز بالبساطة والسطحية في المجمل على حدٍ سواء. وتكمن المشكلة هنا أن هذه الشهرة الرخيصة التي مكّنت البعض من الظهور العفوي بدون جهد يذكر أو دراسة أكاديمية أو تدريب على مبادئ ومهارات الاتصال المطلوبة في الأساس للعاملين في وسائل الإعلام التقليدية، قد جعلت الكثير من النخب تنتقد هؤلاء المشاهير والتقليل من نجاحاتهم بين الناس باعتبار ما يجنونه من مال من الإعلانات ووجاهة ومكانة؛ لا يعدو أن يكون انتهازية وتسلقا، وتناسى هؤلاء المنتقدين الذين خذلتهم وسائل التواصل الاجتماعي في فارق أعداد المتابعين الذين يعجبون أصحابها من عامة الناس بالشهرة والسمعة والشكل، وكذلك عند المنافسة في ساحة سوق الأفكار والرسائل الإعلامية؛ إذ يختار السواد الأعظم من الناس متابعة المشاهير بمضامينهم العفوية والبسيطة على حساب أصحاب الفكر الرصين والخطاب المُتعمق.

وسبب ذلك- في اعتقادي- يعود إلى أنَّ عامة الناس تميل إلى البساطة والكلام السهل البعيد عن الأفكار المعقدة والصعبة، بعكس الذي يناسب المثقفين. والسؤال المطروح الآن، هو: لماذا الجمهور يفضل السطحية والقشور والشكل على حساب الخطاب الثقافي الذي يرتقي بالعقول ويهذب الأنفس؟!

يبدو لي أن هذه القضية الجدلية تحتاج إلى دراسة معمّقة لتحليل الرسائل الإعلامية عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي في مجتمعنا العماني، وذلك للوقوف على مكامن الضعف والخلل في ما يتم نشره عبر هذه المنصات الافتراضية. فإذا رجعنا إلى عقود مضت كنَّا نتهم وسائل الإعلام التقليدية في عالمنا العربي بالتركيز على البرامج الترفيهية التي تفتقد إلى المضمون الفكري الذي يُعالج بشكل درامي هموم المجتمع ويقدم الحلول للتحديات التي تواجه المجتمع والحكومة، وليس الترفيه الذي يخدر الناس ويبعدهم عن واقعهم المعاش. وبالفعل كانت القنوات الرسمية العربية والخاصة؛ تسورد وبعضها أيضا تنتج البرامج الترفيهة المبتذلة وتخصص لها مساحة تصل إلى أكثر من 60% من إجمالي البث في تلك القنوات التلفزيونية الوطنية التي يفترض أن تتمحور برامجها على التوجيه والإرشاد والتثقيف. ومع مرور الأيام يدمن الجمهور هذه المسلسلات والمسرحيات على الرغم من عيوبها الكثيرة، من هنا يردد المسؤولون في القنوات العربية العبارة المشهورة "الجمهور عاوز كذا"

لقد همّشت وسائل الإعلام منذ بداية انطلاقها العلماء والمفكرين وأصحاب الاختراعات الذين استفادت منهم البشرية جمعاء؛ وركزت بدلًا من ذلك على نجوم كرة القدم والممثلين من مشاهير السينما؛ إذ صنعت منهم أبطالًا وقدوة للأجيال. واليوم نجد من جديد أن الثقافة والقيم والأخلاق ليس من أولويات المشاهير من حولنا؛ بل التركيز يتمحور على تسطيح المعرفة والمصالح الشخصية والربح المادي الذي يأتي من الشركات والوزارات التي تستخدمهم للدفاع عن العيوب والأخطاء التي ارتكبها المسؤولون.

وفي الختام.. على المشاهير في الساحة العمانية الالتزام بالمعايير الإعلامية كالصدق والموضوعية والتوازن في نقل الحقيقة، وقبل ذلك كله على الجميع الانطلاق من قيم ديننا الإسلامي الحنيف والثوابت العمانية الأصيلة، وإبراز إنجازات هذا الوطن الغالي والترويج للمبادرات الوطنية والفرص الاقتصادية والسياحية الواعدة في ربوع السلطة لنرفع اسم عمان في المحافل الدولية.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الأكثر قراءة