ماجد المرهون
يُعزى نجاح إنجلترا في السيطرة على العالم خلال القرن التاسع عشر وما بعده إلى تفوق قوتهم البحرية وجهاز البرقية وتلغراف الخط الأحمر من جانب، وجهل الشعوب المُستغَلة وضعفها وشِبهُ فراغٍ للسُلطة من جانبٍ آخر، وكانوا يبشرون الناس بالرفاهية القادمة والسلام والحرية في قالبٍ سياسي دبلوماسي وبذكاءٍ يثقب اللؤلؤ في اتفاقات ومعاهدات تخدير يستطيل الزمان بها ولا يتحقق منها سوى الكلام الموزون الجميل، حتى تستفيق الشعوب لاحقًا على كذب وهوان ما بُشرت به بعد أن غرتهم الأماني وخدعهم البهرج الزائف للرقي والتقدم الحضاري.
جاءت مثوبة غمٍ بِغَّم عندما استبشر العالم مع بدايات القرن العشرين إلى منتصفه خيرًا بتراجع بلاء هيمنة إنجلترا في امتصاص خيرات الشعوب المستعبدة نفسيًا وذلك بفضل بلاء الحرب العالمية الأولى والثانية "بلاء يدفع بلاء" وتزامنًا مع ظهور قوىً صناعية واقتصادية جديدة مثل ألمانيا وأمريكا وخسارة إنجلترا العظمى مركز نواتها الكوني والذي سُميت اتجاهات العالم نسبة إليه ولازالت، ثم تحولت أمريكا إلى القوة الأولى في التخطيط الاستراتيجي ما جعلها تُقرض بريطانيا لإعادة هيكلة اقتصادها المنهار قرضًا غير حسنٍ امتدت فترة سدادهُ 6 عقودٍ شِداد.
عندما تتوقف الإلكترونات عن الدوران فإنها تتعرض للسقوط في النواة بما يسمى الجذب الثقالي وتصل الذرَّات في هذه المرحلة إلى مستوى الصفر من الوجود، وبالقياس على حجم الأرض فإن توقف كل الإلكترونات عن الدوران يسحق الأرض بمن عليها جذبيًا لتصل إلى حجم حبة قمح، وكذلك "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر".
يستبشر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بهلال شهر رمضان وما يصحب الشهر الفضيل من بركات ورحمات ، فيقومون بحساب أيامه بدقة متناهية كساعة السيزيوم الذرية على عكس بقية الشهور؛ بل ويقوم الكثير بحساب ما تبقى منه وليس ما مضى، وفي تلك الأثناء يطل علينا المهنئون الإنسانيون جدًا من المستشرقين والعلمانيين والملحدين وحتى اليهود مؤخرًا بزف التهنئة في اللعب على خاصية الجذب العاطفي ويبشرون شكليًا بالخير القادم وهم يعلمون كما نعلم ما وقر في النفس بعد أن صدقه العمل بناءً على التاريخ الحديث، وإن علت المحبة مُحياهم والمودة سيماهم، وبما أن السر يكمن في الثقة فإن حسن النوايا يتأرجح هنا في الشك بين كفتي ميزانٍ هوائي للسياسة والدبلوماسية.
لا يزال الخطاب العاطفي والملامس للمشاعر يلمع في تصريحات المبشرين ويتصدر "كالترند" في هتافات الواعدين، وربما يكون بحسن نية ولكنه سيعود بمردود عكسي إذا كانت النتيجة لا ترقى إلى حجم الآمال بعد ترقبٍ وانتظارٍ طال، والأمر المخيف أن تكون على وزن جعجعة الرحى بدون قمح بين هزيزها والحفيف والنتيجة لا طحين وبالضرورة لا رغيف.
ما الذي يستدعي هذا الخطاب ما لم يكن ذلك المُصرِّح على معرفة حقيقية بما هو كائنٌ أو ما سيكون وماذا سيقول عندما لايبقى في قوس الصبر منزع؟!
لقد كثرت المبشرات مؤخرًا مع ازدياد عدد الواعدين لدرجة تحولها إلى نمط من أنماط الجذب الجماهيري حيث يقوم إعلامي أو ناشط أو مغرد ما بشطر أنوية ذراته الفكرية مفجرًا زفافا لبشرى على شكل كلمات متقاطعة أو لعبة متاهة ورموز مصورة ليحضى بعدها بهالة ضخمة من التساؤلات بل ويجعل نفسه مركز الحدث الذي سُميت التبشيرة نسبةً إليه بعد مرحلة السبق الساحق التي قام بها وقد يصل إلى مرحلة أخرى من التمويه باللعبِ على وهم العامة وأنه على قدر خاص من الحضوة والتمييز والإلمام بمجريات الأحداث وأنه يمتلك الخبر اليقين ولكن يكتفي بالتلميح حيث دور المهنة الذي كُلف به يحول دونه ودون التوضيح، ليستمتع بمشاهدة فراخ العصافير فاغرة أفواهها تتهافت على الطعام من فم أمها وهو يسبح الله على عظمة الخلق ويحمده.
أسباب كثيرة تقف وراء محاولة بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي وأهمها استعادة السيطرة على كلمتها وقرارها وبالذات الشؤون الخارجية ولا ينفك دفء إرثها القديم من دغدغةِ مشاعرها بين الفينة والأخرى وربما يتطلب الأمر قرنًا آخر من الزمان لصناعة قالب زجاجي جديد من الثقة، مع الأخذ بالاعتبار فهم كل الشعوب لذلك الإرث الهشيم.
حقول القمح والغربان هي لوحة من أواخر الأعمال الفنية للرسام الهولندي "فنسنت فان جوخ" قبل انتحاره.
عزيزي المبشر قريبًا، إن التسويق بتبشير الناس بما لا تملك وبقرارٍ في يد غيرك لهو أمرٌ خطير فربما تعطي بفعلك هذا جُرعة مسكنٍ في عضُد مسكين يكابد الصعاب دون أن تشعر، ومع تناقص ذلك المسكن في الوقت الذي تعمل فيه خاصية الانجذاب الثقالي إليك سيعود الألم لاحقًا كما ستعود معه إلى نقطة الصفر وربما تتلاشى مكاسبك وعلى رأسها الثقة، وما إن يتكسر هذا القالب لن تكتسبه مجددًا بسهولةٍ ولو بعد قرن، وديدن كلمة "قريبًا" التي يستسهلُها الكثير لم يعد يُطرب؛ بل أصبح مُدانًا ولغة الوعد التي تفتقر إلى رصانة المحتوى والتحديد القطعي تعتبر دونية، وإلى متى ستصبر فراخ العصافير على وجبة الديدان والسنابل تذروها الرياح وحقول القمحِ ترتع فيها الغربان؟!