إعادة هيكلية النظام العالمي من العولمة إلى الإقليمية

 

فوزي عمار

مرَّ العالم مؤخرًا بمشكلة ثلاثية الأبعاد، وهي: جائحة كورونا، وسلاسل الإمداد، والحرب الأوكرانية، وتسببت هذه المشكلة في شح الغذاء، وغلاء الأسعار، إضافة الى ما أسمته مجلة فورين بوليسي الأمريكية بـ"الأسواق المذعورة"، مما أسفر عن حدوث 3 تحديات.

وهذه التحديات هي: أولا: قلة توفر الغذاء من حبوب، ومنتجات المخصبات الزراعية مثل اليوريا والأمونيا، وارتفاع الأسعار والتضخم وعدم القدرة على شراء الغذاء لدى شريحة كبيرة من الناس. وثانيًا: النقل والتخزين (اللوجستيات) في ظل انهيار النظام السابق العالمي وهو النظام العولمي (Globalisation) لصالح ما يمكن أن أسميه بالنظام الإقليمي أو المناطقي (Regionalisation). وثالثًا: ارتفاع درجة حرارة الكوكب التي أدت إلى الجفاف في العديد من المناطق الزراعية حول العالم؛ بل وصلت حتى إلى الحرائق على نطاق واسع.

كل ذلك سببه محنة كبيرة للعالم ككل وخاصة للدول الفقيرة، فمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "فاو" تتحدث عن 55 مليون جائع في إفريقيا وحدها مع بداية 2023!

ولا شك أن الخلاف بلغ منتهاه بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، وهي حرب بلا أفق، ولا أعتقد أن يحقق فيها طرف النصر على الآخر. لكن مما لا شك فيه أن العالم لن يعود مثل ما قبل هذه الحرب؛ فالكبار الخمسة في مجلس الأمن مختلفون على كل شىء، إلّا على بقائهم حملة "الفيتو" داخل هذا المجلس الذي لن يكون فاعلًا ما لم تُحل هذه المعضلة؛ فهي ورطة أشبه بلعبة "Cash- 22" في رواية جوزيف هيلير الشهيرة التي صدرت عام 1961، الورطة التي دخلها الكبار هذه المرة وليس الصغار!

روسيا الدولة العظمى التي تملك السلاح النووي والعضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، تدخل حربًا على أوكرانيا المدعومة من أمريكا وبريطانيا وأوروبا، وهذه الحرب يقودها الكبار في قلب أوروبا وليس في الدول الأطراف أو بين الدول الصغيرة! بريطانيا والغرب لجأوا إلى محاصرة أموال المستثمرين الروس على أراضيهم، وهي عملية أشبه بالتأميم الذي قاده جمال عبدالناصر في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، في مرحلة ما من القرن الماضي.

فماذا سيكون رد القضاء البريطاني المعروف بالنزاهة والاستقلالية يا تُرى؟

وطرح روسيا بيع نفطها بعملتها الوطنية الروبل، بمثابة ضربة للدولار تكاد تكون توازي إعلان روسيا استعدادها استعمال السلاح النووي في هذه الحرب. وقد دخل العالم في حرب اقتصادية عالمية، من وجهة نظري، كما اعتقد أن الهند هي التي ستفصل في هذا النزاع الاقتصادي باعتبارها "Game changer"، خاصة بعد أن صرحت مؤخرًا أنها سوف تتعامل بالروبل بدلًا من الدولار؛ مما يعني اتساع الكتلة الداعمة لتوجه روسيا والتي ستضم الصين والهند ودولًا أخرى في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وهي دول منظمة "بريكس BRICS".

وهذا يعني أن ثلثي سكان العالم سوف يتخلى عن الدولار، خاصة أنها دول تمتلك الاقتصاد الصلب، وليس الاقتصاد الافتراضي، كما إن إيجاد بديل للغاز والنفط الروسي يحتاج لسنوات طويلة والعودة للفحم المضر للبيئة.

يبقى السؤال الموضوعي.. هل فعلًا الصين سوف تتخلى عن الدولار وهي أكبر مالك للدولار في العالم بعد أمريكا بقرابة 5 ترليونات دولار (1.3 ترليون دولار سندات الخزانة الأمريكة مع مخزون نقدي من الدولار في حدود 3.7 ترليون دولار)، وأنها ستنحاز إلى حليفتها الإستراتيجية والأمنية روسيا؟!

العالم اليوم بين خيارين: إما تشكيل نظام عالمي جديد، أو إعادة هيكلة النظام الحالي. ولا شك أن هذه المحنة والتهديد يكمن في داخله فرصة، فعلى الدول العربية التكامل فيما بينها؛ فالأمن الغذائي والمائي وأمن الطاقة هو التحدي الأكبر خلال السنوات المقبلة، وهذا يتطلب تكتلات إقليمية متجانسة وفاعلة من حيث الإستجابة للمخاطر وسرعة الإمداد للغذاء والدواء، وهروبًا من إجراءات المقاطعة والمصادرة والتأميم.

ما يهمنا عربيًا هو كيف سوف ستتصرف الدول العربية هذه المرة؟

لا شك أن الظرف التاريخي ملائم لنا كعرب أيضًا لإعادة هيكلة وضعنا الاقتصادي والأمني، وبما يتماشي مع مكامن القوة، ورغبة شعوبنا في الاستقلال بالقرار السياسي وتوفير الأمن الغذائي والمائي، ولعب دور عالمي متوازن، لا يدعم طرف ضد طرف، إلا وفق مصلحة شعوبنا وقضايانا، مع بناء حوض وإقليم عربي اقتصادي؛ فالسودان يمكن أن تكون سلة الغذاء وقد آن الأوان الاهتمام بها بعد عقود من الإهمال. وكذلك اكتشافات الغاز في مصر التي ستضيف للغاز العربي في قطر والجزائر وليبيا قوة داعمة، كما هو النفط في السعودية والإمارات والكويت والعراق، والذي سيوفر ارتفاع إنتاجه استدامة مالية تسهم في تراكم الثروة في حوض الإقليم العربي الاقتصادي، إذا ما تم استغلاله على أكمل وجه.

والعرب موجودون في قارة أفريقيا الغنية بالثروات، والدول العربية في شمال إفريقيا مدخل للقارة وذات وصولية للدول جنوب الصحراء؛ فأفريقيا ستشكل جزءًا كبيرًا من اقتصاد العالم قريبًا.

علاوة على أن علاقات الصداقة مع الدول الإسلامية الكبرى، مثل: تركيا وأندونيسيا وماليزيا وحتى إيران، قد تكون نقاط تقارب والتقاء بدل الخلاف والعداء.

فهل يفعلها العرب هذه المرة وينجحون في رسم تكتل اقتصادي وتشكيل حوض الاقتصاد العربي الذي يضعهم في مصاف الأمم؟ أم هي فرصة ضائعة مثل العديد من الفرص السابقة؟