د. إسماعيل بن صالح الأغبري
الحُرية مبتغى الأمم والأفراد وسعي الشعوب والدول يناضل الجميع من أجل الحصول عليها ولو قهرا أو بقوة القانون. الحريات متعددة ومقولة الخليفة عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"، مضى عليها 1400 عام، إلا أنَّ جذوتها لم ولن تنطفئ ولذا فإنَّ الأنظمة الأساسية للدول ودساتيرها تؤكد على هذا الحق.
من الحريات ذات الشأن مطالبة الأمم والدول غيرها برفع سطوتها عنها والسعي للتخلص من نير كل قاهر مُستعمر ولذلك ضمنت تشريعات المنظمات الدولية شرعية مقاومة المحتل ودفع الصائل عن البلدان. ولا يتقبل شعب أو أمة سيطرة غريب عليه أو وجود مستعمر على أرضه أو مقيد لحريته.
وهو أمر يتفق عليه من دبَّ على الأرض ولذلك أعلنت دول العالم الإسلامي ثوراتها المتكررة وطردت من قيَّد حرياتها والولايات المتحدة الأمريكية تخلصت من المستعمر البريطاني.
ومن المؤسف فإن هذا النوع من سعي الدول والشعوب للتحرر من ربقة المستعمرين لا يجد صدى ودعمًا من القوى النافذة وربما هذا يعود لأنَّ الغرب ذاته كان محتلا للعالم الإسلامي أو لأن مصلحته في بقاء بعض أنحاء العالم الإسلامي تحت نير المحتلين وتلك منه ازدواجية.
ومن الحريات التي يسعى إليها الأفراد حرية التعبير بما هو مكنون في القلب وما يرغب فيه الإنسان مشاعا ويقاس عليه حرية الصحافة والإعلام وهذه الحرية يمارسها النَّاس كل حسب فهمه وثقافته ومعارفه وتوجهاته.
وسائل التواصل الاجتماعي غدت تمثل ظاهرة في مجال ما يسمى بممارسة الحريات وكثير منها يمس بأخلاقيات الدول وقيمها ومن المؤسف أن ينال بعض المجاهيل شهرة؟ مع أن الطرح خواء وغث لا عسل ولا شهد.
ويقف وراء هذا النوع من الحريات مؤيدا وداعما وضاغطا الغرب من خلال مؤسسات رسمية ومنظمات ظاهرها مستقل عنه وباطنها ذراع السياسة الغربية من أجل التأثير على سياسات الدول واقتصادياتها.
حُرية التعبير ضرورة ولكن ليس هناك حريات مطلقة من غير قيد ولا شرط والغرب ذاته يضع قيودا على الحريات وله محرمات لا يسمح بالخوض فيها كانتقاد ما يُسمى بالسامية أو مجرد التشكيك في أعداد محرقة الهولوكوست فضلاً عن إنكارها كما أن الحرب الروسية الأوكرانية كشفت تناقضات الغرب في مجال الحريات فكانت التنظيرات أبين وأوضح من التطبيقات.
تم تكميم الأفواه في الغرب لكل من يُبدي تحليلًا مغايرًا للمنهج الغربي في الحرب الروسية الأوكرانية وتم إيقاف برامج إعلامية وصحافيين ومذيعين ومنعهم من التغطية للأزمة الروسية الأوكرانية.
تم الضغط على فرق ومنتخبات رياضية وإلغاء مباريات مع الروس بل شمل ذلك الضغط على شركات ومطاعم تعمل في موسكو وهذا يدل على أنَّ الحريات مجرد حصان تستخدمه القوى النافذة وسيف مسلط على القوى الأضعف.
شيرين أبو عاقلة مثال واضح على ما تعيشه القوى النافذة في مجال الحريات فهي تضغط على غيرها من أجل حرية الصحافة بينما تم قتل الصحافية شيرين أبو عاقلة ورغم التقارير المحايدة التي تفيد تعمد اغتيالها إلا أنَّ القوى النافذة كأن لم تسمع ولم تر شيئًا؟
بعض هذه القوى تتعمد إيواء منشقين على بلدانهم بدعوى فقدان الحريات في بلدانهم وتسمح لهم تلك القوى النافذة بفتح قنوات ومنافذ للتعبير الصارخ الفج ضد بلدانهم.
المنشقون على بلدانهم ينعمون في الغرب بحياة مترفة هانئة هادئة ويتمتعون بمميزات راقية وحماية خاصة ومن مؤسسات الغرب يشتمون بلدانهم بدعوى الحرية ومن هناك بعضهم يدعو لانفصال جزء من بلدانهم عن بقية الأجزاء بدعوى حرية تقرير المصير؟ وهذا أمر غريب فالدول الغربية وأمريكا وقفت موقفًا صلبًا مُعاديًا ومقاومًا ضد حركة الباسك الداعية للاستقلال والانفصال، ولم تعتبر تلك الدعوة حقا مشروعا في تقرير مصير الشعوب؟ ووقف الغرب جبهة واحدة ضد الاستفتاء الذي تمَّ في إقليم كتالونيا المطالب بما يسميه الحرية والاستقلال؟ فلماذا القوى النافذة تدعم كل دعوة انفصالية في بلداننا وتؤوي دعاتها بينما تمنع ذلك في أي دولة غربية؟ هل الحرية تتجزأ؟
إن القوى الغربية تستثمر في مجال حريات التعبير استثمارًا سياسيًا فتؤوي كل منشق وتدعي أنه حر في ما يُعبر عنه تجاه بلاده بينما هذه الدول ذاتها استدعت أو ضيقت على الصحفي عبد الباري عطوان لأنه أكثر من انتقاد إسرائيل وأبدى مناصرة بلا قيد للفلسطينيين خاصة لأهل غزة؟
هذه القوى تتيح وتشجع اندلاع ألسنة من يصفون أنفسهم بالمعارضين وتجعل لهم حق الصولة والجولة فيها وحق الاستفادة من كل ما يتيسر في تلك البلدان بينما لا تسمح لأحد بانتقاد إسرائيل فإن فعل كان الجزاء اتهامه بمعاداة السامية؟
إنَّ هذه الدول تؤوي المنشقين لا نصرة لحرية الرأي والتعبير ولكن تريدهم حصانا وورقة تشهرها وقت الحاجة فإذا قضيت لها الحاجة ألقتهم كما يلقي الإنسان الشاش أو ورق المحارم إذا فرغ من استخدامه ووضع عليه أوساخه.
نلاحظ أنَّ الغرب لا يضغط في مجال الحريات إلا ما يتعلق بخلخلة مسلمات المجتمعات خاصة في الجوانب الأخلاقية والاجتماعية فيدعم بعض الحركات التي تتمرد على ثوابت اجتماعية مستمدة من ثقافة إسلامية أو يدعم صراحة كل ما يدعو إلى رفض قطعية من قطعيات الإسلام؟
لماذا تضغط القوى النافذة من أجل أن نستورد حياتها الاجتماعية بل ومستعدة أن تهبنا طريقة حياتها وحرياتها الاجتماعية والأخلاقية ولكنها تمنع عنَّا كل ما يدعو إلى الرقي العلمي وتحرمنا من معرفة أسرار الصناعات العسكرية وتشدد الضغط علينا لحرمان عالمنا الثالث من معرفة خصائص التقنيات؟ لماذا لا يكون هذا حقا مشاعا لنا كما يريد ويضغط الغرب لأن تكون أخلاقياته حقا مشاعا لنا وبالمجان ومستعد أن يعلمنا إياها ويدربنا عليها؟
لا ننكر أن هذه القوى النافذة أثرت مناهجها في قسم من الشبيبة وصارت دون وعي أو أنها واعية لكنها مجندة تقلد حياة الآخرين وتريد إشاعة ما لديهم في بلداننا.
ومن مظاهر تأثر بعض الشبيبة بالثقافة المستوردة رفع البعض لبعض المجاهيل حتى عدهم الناس مشاهير والتقليل من أولي الفكر وجعلهم مجاهيل والالتفاف حول فقراء معارف وعلوم وقيم وأصالة وعدم تقدير أهل الفكر والعلوم وهذا يخدم مساعي القوى العالمية النافذة.
على الدول والشعوب التنبه من هذا النوع من الشبيبة التي تخرج على القيم والأعراف فإنها بغية القوى النافذة وهي طليعة الدول التي كانت استعمرت بلداننا استعمارا عسكريا فمالت اليوم إلى الاستعمار الثقافي والفكري.
على الدول والشعوب التنبه لهذه الظاهرة فإنها قد تكون وسيلة القوى النافذة في فرض مزيد من الضغط على الحكومات للظفر بمطالب سياسية واقتصادية.
إنَّ هذا النوع من الشبيبة المتمردة على القيم باسم الحرية والمدعومة من القوى النافذة ستكون رأس حربة لصالح تلك القوى تحركها متى ما رأت في ذلك ضرورة.
أما بالنسبة للمنشقين على بلدانهم والذين يتنعمون في الدول الغربية فإنهم مجرد وسيلة لتلك القوى فإن تحققت مطالب تلك القوى عبر وسائل أخرى فإنها ستخرحهم من الخدمة كعلبة التونة المنتهية الصلاحية.