د. إسماعيل بن صالح الأغبري
الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب بين مد وجزر وبين توقعات بقرب حل قريب وعودة للاتفاق النووي الموقع عام 2015 والذي أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب إلغاءه بعد فوزه برئاسة أمريكا عام 2018.
وقد استمرت المفاوضات بين إيران ودول حق النقض "الفيتو" إضافة إلى ألمانيا، لما يقرب من 10 سنوات خاض من خلالها المفاوض الإيراني الكر والفر واستخدم الدبلوماسية الفارسية ذات الدهاء؛ فالإيرانيون ينسجون دبلوماسيتهم أدق من نسج سجادهم. إيران من جهتها تعترض على عبارة "ضرورة عودة الأطراف إلى الاتفاق النووي" على اعتبار أنَّ المنسحب منه أمريكا والمفرط في تطبيقه الموقعة عليه من بريطانيا وفرنسا وألمانيا ولم تزل هي باقية عليه ولم تعلن انسحابا منه.
لم يستفد الإيرانيون سياسيا واقتصاديا من توقيع الاتفاق عام 2015 إلا قليلا؛ إذ لم يتم رفع العقوبات عنها ولم تتمكن من الانخراط في الأسرة الدولية بسبب تخلف إدارة باراك أوباما عن تطبيق كثير مما تم الاتفاق عليه والغرب ذاته ظل يتلكأ في تطبيق كثير من مضمون الاتفاق.
الإيرانيون شديدو المراس وأولو عمق دبلوماسي؛ إذ لم يعلنوا الانسحاب منه رغم إعلان ترمب الانسحاب منه وتخلف الدول الأوربية من تطبيقه خوفا من عقوبات أمريكا وإنما استمرت إيران تقضم الاتفاق شيئا فشيئا دون إعلان عن انسحاب منه وهذا المنهج يعكس دهاء الدبلوماسية الإيرانية فهي توحي بأنَّ خطواتها في تجميد التزاماتها ببعض بنود الاتفاق إنما ذلك ردة فعل للانسحاب وتلكؤ الغرب من الالتزام وشتان بين ردة الفعل والبادئ بالفعل.
كان من ضمن ما وعد به الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال حملته الانتخابية العودة للاتفاق النووي خاصة وأنه كان له راعيا ومهندسا أيام الرئيس السابق أوباما إلا أنه حتى الساعة لم يتمكن من إعلان عودة أمريكا للاتفاق النووي.
بينما تمكن ترمب من تطويق بايدن بوضع عشرات العراقيل المانعة من عودة بايدن، ففرض عقوبات قاسية على إيران وأعلن أنَّه سيفرض عقوبات على أي شركة غربية تتعاون أو تستثمر في إيران ما جعل الشركات الكبرى ترحل من إيران مخافة فقدانها السوق الأمريكية الكبيرة النافذة. ثم وضع ترمب عقبة كبرى في وجه إدارة بايدن وهي تصنيف ذراع إيران وركنها وعمودها ويدها الحرس الثوري بما في ذلك فيلق القدس منظمة إرهابية ولا شك أن بايدن يجد من الصعب عليه رفع هذا التصنيف وكذلك بالنسبة لأي حكومة إيرانية فمن الصعب عليها عدم المطالبة برفع تصنيف الحرس الثوري من قائمة الإرهاب لأنَّ الحرس عماد الدولة وذراعها وحامي مكتسباتها.
عقوبات ترمب شملت مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية وهذا يعتبر إهانة للدولة الإيرانية لأنَّ المرشد هرم السلطة السياسية والمرجعية الدينية في إيران بل وله مقلدون كثيرون خارج وداخل إيران.
ومطالبة إيران أمريكا بضمانات مطالبات واقعية ذلك أنه غالبا بدون حصولها على ضمانات على عدم انسحاب أمريكا من الاتفاق مرة أخرى لن يتقدم المستثمرون إلى إيران وستظل الشركات الكبرى في قلق دائم من قدوم إدارة أمريكية تلغي الاتفاق وبذلك تخسر هذه الشركات استثماراتها.
وكذلك فإنَّ إيران يصعب عليها التخلي عما بلغته في النووي الإيراني من تقدم دون الحصول على ضمانات بعدم تكرار الانسحاب فهي تعلم أنها لن تتمكن من الاستفادة من الاتفاق نظرا لخوف الدول والشركات من الاستثمار فيها.
تطالب إيران برفع شامل للعقوبات المفروضة عليها جملة وتفصيلا لكن البيت الأبيض غير قادر على ذلك لأمور منها ضغط الديمقراطيين المعادين لإيران والخوف من ردة فعل الجمهوريين الذين لهم سطوة في الكونجرس وشعبية في الشارع.
الإيرانيون بدبلوماسيتهم المعهودة ودهائهم السياسي يدركون أن رفع بعض العقوبات دون أخرى مع إعطائهم وعودا برفع البقية تدريجيا يعني عدم رفع بقيتها استنادا لما كان من أمريكا والدول الغربية ثم لو كان هناك نية لرفع العقوبات كلها لما تلكأ الغرب وأمريكا حتى عن تنفيذ الاتفاق النووي الموقع عام 2015.
ويطالب الغرب بمناقشة امتلاك وإنتاج إيران للصواريخ البالستية وتحجيمها بحجة أنها تثير قلق الجوار وإسرائيل والصحيح أن الغرب يطالب بتحجيمها لأنها تثير قلق إسرائيل وإلا فإن الدول العربية استمرت في قلق من قوة إسرائيل المتنامية ومن امتلاكها ما يقرب من مئتي رأس أو قنبلة نووية ومع ذلك فإنَّ الغرب لم يسع لإزالة قلق العرب. وكذلك فإن أمريكا والغرب لا يسمحان للدول العربية إلا بأسلحة ضعيفة مقارنة بتسليحهما إسرائيل بأسلحة هجومية فتاكة.
أمريكا وعلى لسان رؤوسائها ووزراء خارجيتها ودفاعها يؤكدون على ضرورة بقاء إسرائيل متفوقة على العالم العربي فكيف يريد الغرب وأمريكا مناقشة الصواريخ البالستية الإيرانية لتهدئة المخاوف العربية؟
ولا تمتلك إيران طائرات حربية هجومية فهي في هذا الجانب مكشوفة؛ بل والطائرات المدنية تعاني أيضًا بسبب الحصار القاسي وعدم وجود قطع غيار وغياب الصيانة اللازمة، فكيف يمكنها التخلي عن الصواريخ البالستية، إنها إن فعلت ذلك كانت بمثابة من قلَّم أظافره بنفسه وأباح حماه لغيره؟
لا تتلقى إيران أسلحة دفاعية من الغرب فضلاً عن الهجومية كما أن غيرها من جوارها يتسلح بعشرات الصفقات من الأسلحة البرية والبحرية والجوية فهل ستتم مُناقشة جميع ذلك ليدخل الجميع في السلم كافة؟
ومما يرغب الغرب في مناقشته هو وجود إيران في عدد من الساحات كسوريا ولبنان والعراق واليمن.
أمريكا والغرب يتعهدان بالحفاظ على أمنهما القومي في الخليج وباب المندب والبحر الأحمر رغم بعدهما عن تلك المواقع بآلاف آلاف الكيلومترات فقد يحتج المفاوض الإيراني بذلك وأنه أيضًا يريد حفظ أمنه القومي خاصة وأن المنطقة ملاصقة لإيران وأن إسرائيل باتت منها قاب قوسين أو أدنى.
خلاصة الأمر أن المفاوضات شاقة جدا والمفاوض الإيراني داهية من الصعب كسره وهو ما ينبغي أن تستفيده الدبلوماسية العربية. ومن الدروس المستفادة أيضًا أن الغرب وأمريكا لا يقيمان لضعيف وزنا وإنما يمليان عليه أما من أخذ بأسباب القوة أمكن أن يكون ندا لهما وضدا فيحظى باحترام وتقدير وإن لم يتم التنازل له عن كل شيء. ومن الدروس المستفادة يجب على الدول العربية عدم مناكفة إيران فصداقتها خير من عداوتها لأنها حار باق وإن جف النفط وافتقرت المنطقة بينما الغرب قادم إلينا مادام نفطنا يسيل ولعاب الغرب يسيل فإذا جف النفط جف الوجود الغربي في المنطقة. ومن الدروس المستفادة تجنب المخاصمات على أسس قومية ومذهبية فلا عرب ولا فرس ولا مذهبيات فالتعاون والعلاقات مع الفاتيكان جائزة فكيف لا يحق ولا يجوز إقامة علاقات طبيعية حسنة مع إيران؟
ويمكن الاستفادة من إيران من حيث الدهاء ومن حيث الموارد البشرية والطبيعية والثروات فالخليج له احتياجات وإيران كذلك فإن تفاهما ساهم كل منهما في خدمة الآخر.
العالم الغربي قد يكون مستعدا لتوتير العلاقات في المنطقة ولكنه حين الجد لن يدفع بأبنائه من أجل غيره إلا إن كانت إسرائيل في خطر أحيط بها لذا على إيران ودول الخليج التعاون والتكاتف.
وختامًا.. إن سلطنة عمان بعيدة النظر عميقة التفكير لذا لا تشهد علاقاتها مدًا وجزرًا أو وصلًا وانفصالًا ولا تدخل في مناكفات ولا مشاحنات؛ فدبلوماسيتها لا تقل رقيًا عن دبلوماسية إيران.