الماضي الجميل

 

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

كان الشعراء في الجاهلية يبتدئون قصائدهم بالبكاء على الأطلال، والتغزل بديار المحبوبة، يبكون أيامهم الجميلة وتفوقهم على بقية الأمم؛ فالبكاء يعبر عن تجربة مؤلمة واحتجاج على الحاضر، والحنين إلى الماضي الذي كان مشرقًا، أستذكر امرؤ القيس المعروف بالملك الضلّيل الذي يعد من رواد البكاء على الأطلال في القرن السادس الميلادي، الذي استهل معلقته بأبيات:

"قَفَا نَبكِ من ذكرى حبيبٍ ومَنزلِ

بِسِقطِ اللّوَى بين الدَّخولِ فَحومَل

فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لمْ يَعْفُ رَسْمُها

لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ"

لو يعلم امرؤ قيس بأنَّ البكاء على الأطلال متوارث منذ القرن السادس حتى اليوم، وإن اختلفت القوالب وأساليب التعبير، فهل سيكون سعيداً.. بؤس الحاضر والخوف من المستقبل يجعل الإنسان يسترجع الماضي، ويتمنى عودته.

إنَّ التشبث بأمجاد مضت يجعل الفرد أو المجتمع دائمَ الوقوف في نقطة وعدم تجاوزها، في وضع الانتظار دون السعي لتحقيق شيء يغير من واقعه، لأنه يتوقع عودة الماضي الجميل، وبالتالي، فإن تقدّمه للأمام يبدو مستحيلاً يقول المثل الإسباني: "من لا ينظر إلى الأمام يبقى في الوراء".

السعي والمثابرة ديدن الحياة، حتى نعيش بصورة طبيعية، فأحداث الماضي قد تجعل الفرد يتخبط لأنه يرغب في تكرار الماضي في الحاضر والمستقبل، وهذا ليس من الواقعية في شيء.

يتباهى الكثيرون بالماضي وأمجاده، والإنجازات التي تحققت، والتي كان الفضل في تحقيقها الأجداد، فتراهم في كل مناسبة يسترسلون في ذكر الانتصارات، ويذكرون الماضي الجميل، والحياة الوردية التي كان يعيشها الأجداد في مدن فاضلة، لا يعكر صفو حياتهم شيء!.. وهذا كلام غير دقيق، لأن الأجداد استفادوا من الحضارات التي كانت حولهم، وترجموا العلوم وتغربوا، وتركوا الديار وعانوا من مشقة الهجرة والترحال ونجحوا عندما تبنوا العلوم الجديدة. صناعة المستقبل لا تكون باجترار الماضي، ومحاولة صناعة نسخ مكررة من ماضٍ لم نعايشه ولا نعلم ظروفه.

تذكر الماضي متعة وقتية لنسيان ألم الحاضر وتحدياته الجسيمة، من الجميل الاعتزاز بالماضي، وتراث الأجداد وانتصاراتهم وحضارتهم، من أجل تعلم الدروس والاستفادة منها، واستثمار الإرث الحضاري كقاعدة لبناء حاضر أجمل بلغة الحاضر وأداوته ومرئياته، لا بأدوات الماضي أو فكره. في الماضي كانت الأحصنة تعد من وسائل النقل، إلا أن دورها تراجع، وأصبحت تستثمر في السباقات ولم نعد نراها كوسيلة للنقل إلا نادرًا؛ فالسيارات، والقطارات، والطائرات قد حلت محله، واستطعنا أن نتكيف مع الواقع الجديد، وتقبلنا التغيير للمضي قدما في طريق الحضارة، إنَّ التغيير والتطور من سنن الحياة فلا شيء يبقى كما هو.

التاريخ يقول إنَّ الحضارات التي توقفت عن الإنتاج واللحاق بركب التقدم اندثرت ولم يتبقَّ منها غير الأطلال نتغنى بها ولها، وينطبق على الدول التي لم تستطع أن تواكب التطور العلمي والحضاري فتراجعت إلى ذيل القائمة؛ فالحضارة الرومانية واليونانية وغيرها التي كانت منارات الحضارة الإنسانية لم تعد اليوم كذلك.

ويعتقد البعض أنَّ صناعة الحاضر والمستقبل تتحقق بالتشبث بأمجاد الماضي، وهذه مغالطة فمعظم الحضارات لم تتشبث بالماضي، بل تجاوزته وأكملت الطريق سواء أكان الماضي جيدا أو مأساويا.. التشبث بالماضي والتغني به يصنع البلادة والكسل ويضيع الفرص ويجعلك تبقى في الوراء.

 أما البعض فيرى أن التراجع مؤشر نجاح، فيؤمنون بمقولة: "ﻻ ﺗﻴﺄﺱ ﺇﺫﺍ ﺭﺟﻌﺖ ﺧﻄﻮﺓ ﻟﻠﻮﺭﺍﺀ، ﻓﻼ ﺗﻨسَ ﺃﻥ ﺍﻟﺴﻬﻢ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺃﻥ ﺗﺮﺟﻌﻪ ﻟﻠﻮﺭﺍﺀ ﻟﻴﻨﻄﻠﻖ ﺑﻘﻮﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﻣﺎﻡ"؛ فسَّر لي أحد الأصدقاء هذا المثل الذي كان يكرره لهم مسؤولهم في العمل، أن التراجع في أداء الأفراد أو المؤسسات مؤشر أن الانطلاق سيكون قويًا إلى الأمام! يبدو التفسير غريبا بعض الشيء؛ لأنه ليست كل الأسهم المتراجعة تنطلق إلى الأمام، فبعضها قد يسقط قبل أن يصيب الهدف، إذا كان الرامي غير ماهر.

إنَّ التركيز على ذكر مناقب الأجداد دون التعامل مع الحاضر بواقعية، سينشر اليأس والإحباط في نفوس الشباب المراد منهم بناء الحاضر والمستقبل، ولا ننسى أن دولا متقدمة بنت نفسها بلا ماضٍ ولا تراث سابق، وأصبحت اليوم من الدول المتطورة كسنغافورة ونيوزلندا وكندا وأمريكا...وغيرها، دول لم يكن أمامها من خيار غير صناعة الحاضر والمستقبل ولم تنبش في الماضي، فأنجزت وانطلقت بقوة إلى الأمام. بدلا من التركيز على ماض انتهى، فإنَّ الأجدر أن نبحث عن أسباب تفوقهم ونعلمها لأبنائنا في مناهجهم التعليمية ومجالس العلم والندوات والمحاضرات، أبحاث علمية تطور قدراتهم وتجعلهم فخورين بما أُنْجِز.