إنسان فقد خصوصيته

ميرفت بنت عبدالعزيز العريمية *

كان ولا يزال الإنسان يُطالب بحريته الشخصية التي تمنحه خصوصية كاملة لحياته دون تطفل لأدنى تحكم، الّا أن الخصوصية لم تعد ممكنة ونحن في عصر المعلومات، الخصوصيات مخترقة لكلّ تفاصيل حياتنا.. ماذا نأكل، ونشرب، ونرتدي، ومشكلاتنا الصحية، وتعاملاتنا المالية وبريدنا الإلكتروني، وما يحتويه من صور، ورسائل، ومحادثات، ماذا نعمل وأين نسكن، ومن هم أصدقاؤنا، وآخر رحلاتنا، واتجاهاتنا وأفكارنا يعلمون كل شيء؛ لأننا ببساطة وقعنا في فخ التكنولوجيا الحديثة، وسارعنا في اقتناء الهواتف الأكثر ذكاء منّا، وتقوم بالتفكير نيابة عنا، وشبكة الإنترنت التي تظهر لنا كمارد الفانوس الذي يحقق أمانينا كلها، وليست ثلاثة أماني فقط، ويجيب عن كل تساؤلاتنا، كلما ضغطنا على زرّ محرّك البحث، ليس حباً فينا، بل لأنها ببساطة تخزّن معلوماتنا وتبيعها لمن يدفع. لكن الأسوأ من ذلك أننا بكل أريحية نشتري لأبنائنا أحدث الهواتف الذكية، وأجهزة لوحية دون تنبيههم لمخاطرها، أو مراقبتهم حتى لا يقعون فريسة للابتزاز.

 لقد أصبحنا كبشر أقل صبراً ومتوترين.

إنَّ القلق والتوتر من أكثر الأمراض انتشارًا في العالم، والتي تتسبب في أمراض نفسية وعقلية، تؤثر على الصحة العامة، رغم أن للتكنولوجيا سمات حميدة، فقد ساعدت في إنجاز الأعمال في وقت أقلّ، إلا أنها كأيّ وافد صناعي له سلبيات.

 وضع العلماء مجموعة من الأعراض الصحية الناتجة عن الإفراط في استخدام التكنولوجيا؛ مثل: الأرق والصداع التوتري وآلام الرقبة والأكتاف وصعوبة التركيز، وانخفاض الثقة بالنفس، وعدم الرضا، والاكتئاب، والإفراط في تناول الطعام، والكافيين.

إنَّ التكنولوجيا الحديثة شرّ لابدّ منه، لكن خطورتها تكمن في إمكانية التلاعب بمعلومات الأفراد، أو المؤسسات وابتزازهم، التي قد تُنهي مستقبل البعض، في ظلّ غياب التشريعات الدولية الصارمة، والعقوبات المشدّدة لمثل هذه الممارسات؛ لذلك عادة لا تقتني الشخصيات المهمة الهواتف الذكية وتكتفي بالهواتف الغبية التي توفر فقط خيار الاتصال.

إنَّ الاعتماد على التكنولوجيا أثّر على قدرة الإنسان على التفكير المستقلّ، في الوقت الذي يسير فيه العالم بخطوات سريعة إلى البديل الصناعي، عن القوة البشرية في شتى ميادين الحياة كأنظمة متطوّرة وذكية. يقول ألبرت أينشتاين: "أخشى اليوم الذي ستتجاوز فيه التكنولوجيا تفاعلنا البشري.. فإنّه سيكون للعالم يومئذٍ جيلٌ من البلهاء".. قد اقتربنا من الاستغناء الكلي عن مهاراتنا، واستطاعت التكنولوجيا أن تحل محل الكثير من الأمور في حياتنا من بينها التفاعلات الإنسانية، التي أصبحت افتراضية حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، فقد اختار البعض تحويل حساباتهم على مواقع التواصل الإجتماعي كتبا مفتوحة لكل من يرغب في القراءة.

نعم.. الصورة قد لا تبدو قاتمة لدى البعض، إلا أنها مرعبة للبعض الآخر؛ فالقادم أكثر. لقد انتشرت قضايا القرصنة واختراق الخصوصية، والتجسّس على الأفراد والمؤسسات، حتى إنَّ البيانات الصحية للأفراد تستخدمها شركات أبحاث الأدوية عند رغبتها في إجراء تجارب على البشر دون علمهم، والأدهى من ذلك استغلال أرباب العمل المعلومات الصحية للموظفين، لطردهم من العمل لعدم اللياقة.

بدأت بعض الشركات تبتكر تطبيقات ومحركات بحث وأجهزة ذكية مشفّرة تتمتع بخصوصية أكبر، الّا أن هذا لا يكفي؛ فالوعي بمخاطر التكنولوجيا الحديثة يتزايد. ففي الأعوام الأخيرة بدأت الصيحات تتعالى في الغرب، تتحدّث عن "عالم ما بعد الخصوصية" كما أسماه ميخائيل كوسنسكي، تنادي باحترام الخصوصية كحقّ من الحقوق البشرية، ومكسب من مكاسب الديمقراطية الحديثة، التي منحت الفرد الحرية والخصوصية، والاستقلالية في قرارته وسلوكياته، وحقّه في الاحتفاظ بسرية معلوماته وحياته، طالما لا يخالف القانون.

 لأننا كعرب اعتدنا أن نستورد التكنولوجيا من الغرب، كما استوردنا القيم الحديثة منهم، فإننا أقلّ وعيا بمحتويات الوارد الجديد، الذي لا نملك أدنى سيطرة أو تحكّم فيه، لذلك لا بد من دراسة تأثيرات التكنولوجيا، ليس فقط على الأمن القومي، فالأمان المجتمعي وحماية المجتمع من الابتزاز بأنواعه والانسلاخ التدريجي من القيم الحميدة، يستوجب وضع حدود للتعامل مع محركات البحث، والبرامج والتطبيقات المستوردة، والعمل على إيجاد بدائل محلية مشفرة.

إن الخصوصية مسألة نسبية تختلف من عصر لآخر، ومن مجتمع لمجتمع، وسابقا كان الإنسان يضع حدودًا وخطوطًا حُمرا في تعاملاته مع المجتمع، ويحتفظ بخصوصيته عن أعين الدخلاء. هكذا يجب أن يتم التعايش في عصر الرقمنة، علينا أن نعيد ترتيب حياتنا، وتقنين التعامل مع التكنولوجيا، ونشطب حياتنا الشخصية من صفحات المنصات الإفتراضية، بالتعامل الآمن مع التقنيات الحديثة، ومع ذلك فإنَّ صون حياتنا الشخصية والأسرية مسؤولية أفراد ومؤسسات.

من الضروريات وضع أطر للتعايش مع عصر الرقمنة، وغربلة كل وافد تكنولوجي، قبل أن يصبح في متناول المجتمع، ووضع قوانين صارمة، وضوابط على الشركات التقنية العالمية التي منحت لنفسها حقَّ التحكم في مصائر المجتمعات، مقابل تقديم خدمات مجانية، إضافة إلى نشر الوعي التقني بين أفراد المجتمع.

هناك من يُؤمن بأنَّ الثورة ضدّ الإنترنت قادمة لا محالة، دفاعا عن الخصوصيّة كحقّ أصيل للفرد، فهل هذه الثورة ستعيدنا إلى الوراء لعصر ما قبل الإنترنت؛ حيث الحياة الهادئة والحميمة، ويصبح انتصارًا جديدًا للإنسانية ودرسًا قاسيًا للإنسان الذي فقد خصوصيته، أم أننا سنشهد عصرًا للشفافية المطلقة وهروب الإنسان إلى مناطق معزولة لا تصل إليها التكنولوجيا؟!

 

* كاتبة وباحثة عمانية