الواجب.. الدفتر.. المحوَّشة

خالد بن سعد الشنفري

عادة ظفارية موغلة في القدم، تحولت مع التواتر ومرور الزمن إلى عُرف بين الناس في المجتمع.. والعرف: هو ما تعارف مجموعة من البشر في حيز جغرافي معين على العمل به وانتهاجه، وتواتروا على ذلك لصلاح شأن من شؤون حياتهم، حتى أصبح بينهم بمثابة القانون واجب التنفيذ، وإن لم يكن مكتوبا.

ويعتبر العرف أحد أهم المصادر الأساسية للقانون في أي تجمُّع بشرى يُقنن قوانيه، وآخر صورة لهذه التجمعات البشرية حاليا هي الدولة الحديثة.

الزواج آية من آيات الله في الكون لقوله تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون". والزواج لغةً هو الاقتران والازدواج، وقد تم التعارف عليه في معظم الثقافات القديمة بأنه الإطار الأكثر قبولا للالتزام بعلاقة بين زوجين والإنجاب، بهدف إنشاء وتكوين العائلة.

ويمتدُّ تاريخ الزواج بين البشر إلى عهد آدم وحواء؛ حيث مثَّلا أول لبنة زواج شرعي في تاريخ البشرية. ويحث ديننا الإسلامي الحنيف على الزواج، وينهى عن التبتل، كما أنَّ الزواج من سُنن الأنبياء والمرسلين.. قال تعالى: "ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب"، وقال رسول الله: "أربع من سنن المرسلين: الحناء، والتعطر، والسواك، والنكاح"، وقال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع؛ فعليه بالصوم فإنه له وجاء".

لقد أبى هذا المجتمع الظفاري الأبي المؤمن بالله، والمُحب لرسوله منذ عصر الرسالة والهدي المحمدي أنْ لا يجعل شبابه يحتاج للجوء إلى الصيام ليكون له وجاء، لتعذر الجدة والاستطاعة للزواج، وسهل لهم أمر هذا الزواج، وتكاتفوا جميعا فيما بينهم على تقليل تكاليف الزواج، وذلك قبل أن تعرف البشرية في عصرها الحديث نظامَ التامين كوسيلة لتقليل المخاطر مع ما عليه من مآخذ شرعية لا زال لم يُبت فيها إلى الآن، كل ذلك من أجل تيسير أمور الشباب والعزاب للزواج وتقليل تكاليفه ومتطلباته.

إنَّ عنوان مقالنا هذا: "الواجب والدفتر والمحوشة" لخير دليل وشاهد شاخص على ذلك إلى يومنا هذا، وسيستمر التشبُّث به- بإذن الله تعالى- لما فيه من فائدة عظيمة، وموسمنا هذا، موسم الخريف، وموسم الإجازات والأعياد، ومنها أعياد الزيجات بالطبع التي لا تخفى خيمها المنتشرة في كل حدب وصوب من جرابيب وساحات ميادين وجوامع ظفار وقاعات أفراحها على كل من يزورها في هذا الوقت، وتشهد بدورها على هذا المسلك الحميد لأبناء المجتمع الظفاري، الذي نتمنَّى أن يتم الأخذ بها، وانتشارها في كل محافظة وولاية من عُماننا الحبيبة، لتعم الفائدة، خصوصًا وأننا أصبحنا بأمسِّ الحاجة إليها اليوم؛ وذلك لسببين:

- الأول: غلاء المهور غير المُبرر تماما في الوقت الراهن، وعدم تدخل ولي الأمر لتقنين ذلك لمحاذير قد تكون مبررة.

- الثاني: ما يسود العالم جميعا اليوم ونحن جزء لا يتجزأ منه من تغيُّرات اقتصادية من ارتفاع الأسعار وقلة فرص العمل، ووضع الفرد والأسرة الاقتصادي.

لقد عاصرتُ -والحمد لله- الواجب أو الدفتر أو المحوشة في ظفار فيما قبل عصر النهضة من ستينيات القرن الماضي وما بعدها من يوليو المبارك عام 1970 إلى اليوم، وأرى أنها من نعم الله وفضله علي.. فالشكر والحمد لله على ذلك.

كان مبلغ الواجب في منتصف الستينيات حسب ما أتذكره يتراوح بين ريال سعيدي أو الريال الفرانص (ريال ماري تريزا الفضي) -الذي كان يتم التعامل به آنذاك- إلى ريالين.

اختلف الوضع بطبيعة الحال بعد عصر النهضة المباركة بالتدريج، وأصبح 5 ريالات حتى وصل مؤخرا إلى مبلغ يتراوح بين 20 و30 ريالا عمانيا، وهو ما يُسهم به الشخص الواحد كواجب أو محوشة للعريس، ويتراوح مجموع مبلغ ما يحصل عليه العريس نظرا لاتباع المجتمع لهذه العادة أو العرف الحميد إلى بين مبلغ 10 آلاف و30 ألفا أو يزيد أو يقل قليلا، وهي كفيلة بتغطية تكاليف ومتطلبات الزواج كله أو معظمه.. ويبقى أن الفرق بالزيادة أو النقصان في المبلغ هنا وهناك يرجع لكثرة أو قلة مشاركة أي فرد في المجتمع في هذه العادة، وكل ذلك يصبُّ في الهدف منها أساسا وهو تحفيز روح التعاون والتنافس عليه.

 من خلال مسميات هذه العادة نعرف مدى نُبلها: فمن الكلمات الثلاثة: الواجب، الدفتر، المحوشه، يتبادر إلى الذهن مباشرة مدى عظمة هذه العادة أو العرف الجميل..  فهل هناك أنبل من أن يُحمِّل الفرد نفسه طوعا وحبا واجبا عليه تجاه الآخرين؟!

الدفتر: هو لتوثيق اسم ومبلغ كل من قام نحوك بهذا الجميل لترده له في مناسبة شبيهة -دين غير ملزم- وردك إياه في مناسبة زواج من قام به معك يعتبر منك واجبا وجميلا تجاهه.

أما المحوشة لغويًّا ففيها أسمى المعاني، وكأن القوم قد تحوَّشُوا على شخص العريس وجعلوه وسطهم.. ما أجملها من معانٍ وجب التمسك بها، بل والعضُّ عليها بالنواجذ.