جواذر العُمانية.. الامتداد الطبيعي لبحر عُمان الكبير

حمد الناصري *

 

تعتبر جواذر مدينة بحرية إستراتيجية بالغة الأهمية للامتداد البحري العُماني، فهي تقع على مقربة من بلوشستان الباكستانية، على أطراف ساحلها الجنوبي الغربي.

فمنذ العام 1797، وجواذر تتبع لِلسُلطة العُمانية، فجواذر هي المكوّن الاجتماعي للبلوش وفي القرن السابع عشر كانت قبيلة البَلديين التي هي القبيلة الأساس للبلوش، وهذه القبيلة العُظمى أي قبيلة البَلديين هي القبيلة المسيطرة على إقليم مكران ومدينة جواذر البحرية. لكن في القرن الثامن عشر برزت أسرة البراجوة من بطن قبيلة الجشكى ويتزعمها "مهبط خان"، وفي سنة 1736 أعلن مهبط خان خضوعه لنادر شاه حاكم فارس الذي غزا بلوشستان. وعين نادر شاه مهبط خان والياً على كل بلوشستان بما فيها مكران، وعلى أثر انسحاب تقي خان قائد قوات نادر شاه من بلوشستان في عام 1739 استغلّت قبيلة الجشكي الفرصة لكى تُعزز مكانتها في جواذر واحتفظت بالزعامة.

ولا يَخفى على قارئي التاريخ أنَّ أثر السيادة العمانية على بلوشستان كجزء من تاريخ عُمان، ويعلم الكثيرون أنّ الإمبراطورية العُمانية بلغتْ أوجّها في عهد اليعاربة القوي وامتدّت قوّتها إلى حدود جغرافية بعيدة نحو القارة الآسيوية والافريقية، وبلغت أقصى اتساعها في الشرق الإفريقي، وحتى وقت قريب جداً سادت الدولة الأسرة البوسعيدية بحضارة مُعاصرة من الطراز الرفيع.. فالإمبراطورية العمانية الواسعة كان لها صدى قوي لسياسات الروابط التي انتهجتها، وتعدُّ الإمبراطورية العُمانية كامبراطورية ناعمة وبخيارات مُتطوّرة في التعامل المرن مع الدول التي تسيّدت عليها، فأقامت سياسة الروابط الاقتصادية والاجتماعية مع دول الشرق الإفريقي، وحصلت على سيادة بحرية واقتصاد متوازن مع التجارة القائمة آنذاك، كموانئ فارس والهند وشرقي إفريقيا، وتحكّمت في السيادة البحرية بلا مُنافس، وبتلك السيادة البحرية السليمة، ارتبطت عُمان بعلاقة حسنة مع الدولة العثمانية؛ مما جعل السلطان العُثماني يُقرر دفع مُكافأة سنوية للإمام أحمد بن سعيد من خزينة الدولة العثمانية نظير السيادة البحرية التي تتمتع بها عُمان، ونظير أسطولها البحري القوي الذي لم تُنافسه أية قوة بحرية أخرى في صناعة الإمبراطوريات العظيمة؛ فسادت البحار.

لذلك؛ فإنَّ التأثير العُماني ذهب إلى أبْعد من ذلك، فقد ربط القارة الإفريقية بأهم مصادر الإنتاج العالمي يومذاك، الشرق الأقصى وبلاد البحر الأبيض المتوسط؛ فكان النشاط التجاري بين العرب وبلاد شرق إفريقيا أعلى سياسات روابط العلاقات بينهما؛ وقد خرجت عُمان من القارة الإفريقية على أثر أحداث 1964 التي أطاحتْ بالسلطان جمشيد بن عبدالله في ثورة سوداء، عرفتْ بثورة زنجبار 1964م، ولأنَّ الشرق الإفريقي يتكوّن من عدة جزر وتنوّع عِرقي كبير، فقد امتدت اليد البريطانية إلى ذلك الشرق الذهبي.. وأبْقت العرب العُمانيين السيطرة على الحكم على اعتبار أنّ تلك الجزر الإفريقية كمقاطعات سابقة لسلطنة عُمان. مما أغضب حزب "أفروشيزاوي". وفي 12 من يناير 1964 قام الثوار بزعامة جون أوكيلو عضو حزب أفروشيرازي بالاستيلاء على الجزيرة الكبرى "أنغوجا"؛ فاحتلّ مراكز الشرطة واستولى على الأسلحة. وفي العاصمة ستون تاون أطاحوا بالسلطان وحكومته. وقد اقْتصّوا من المدنيين العرب والآسوييين في الجزيرة وقُدّر عدد القتلى نتيجة الثورة 20 ألفا. وحين جيء بعبيد كارومي زعيم حزب أفروشيزاوي مَنح حزب الأمة مواقع في السلطة. ونظراً لخشية البريطانيين من استيلاء الشيوعية ونفوذها، فقد تمّ إجلاء المدنيين من البريطانيين والأمريكيين بدون مشاكل.. لكنَّ العرب والعُمانيين قُتلوا وصُلّبوا ومُزقوا تمزيقاً وأغرقوهم جُثثاً في البحر.

وفي الوقت الذي تمّ فيه الجلاء للمدنيين الغربيين، أنشأت الكتلة الشيوعية كالصين والاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية علاقات ودية مع الحكومة الجديدة بقيادة عبيد كرومي. وعلى الفور، تمَّ مُناقشة اندماج زنجبار مع تنجانيقا وتسميتها بتنزانيا.

وبتلك الثورة السوداء، انتهت 200 عام من الحُكم العُماني الذي وصفته وسائل الإعلام آنذاك بأنه محاولة لمنع الشيوعيين من تدمير زنجبار.. لكنَّ الحقيقة هو لمحو آثار العرب العُمانيين بعد امتداده لمئات السنين من الرخاء والسعادة.

وعوداً إلى بلوشستان الواقعة في الجانب الآسيوي لعُمان..الواقعة بين باكستان وإيران وأفغانستان. فساحل بلوشستان، وبالأخص ساحل مكران الذي هو في حقيقته امتداد للبحر الكبير المُطل على بلاد الرافدين والطرق البرية التي تربط البحر بالهند وشرق إفريقيا، ولأنّ ذلك البحر الكبير، هو بحر عُمان المفتوح ذو الجذور المُمتدة إلى أقصى البحر العميق الذي عُرف لدى العمانيين بـ"بحر الظُلمات".

وبهذا القدر من الأهمية الإستراتيجية والطبيعية لامتداد بحر عُمان الكبير، استطاعت عُمان تُعزبز ترابط ممتلكاتها الآسيوية عبر مكران ذلك الساحل الذي عُرف منذ أقدم العصور أنه جزء طبيعي من امتداد بحري ساحلي إلى عُمق بحري واسع؛ ففي الألفية الرابعة قبل الميلاد كانت التجارة البحرية: إيران، ومكران، وبلاد الرافدين، والهند، وشملت شبه الجزيرة العربية وعُمان جزءا مُهما من تلك الشبكة البحرية التجارية. ونظراً لتلك العلاقة الوطيدة منذ القدم ببلوشستان كان حريًّا أنْ تبقى امتداداً للخطوط البحرية، وكشفت الآثار الخزفية والأواني التي تعود إلى ما قبل الميلاد والتي وُجدت في رأس الحد ورأس الجنز عام 1981 والمنقوشة بالكتابة الهارابية لحضارة الهارابا "حضارة وادي السند" المستوطنة في تلك المنطقة. وهذا ما جعل بعض المؤرخين يُؤكدون هجرة أهل بلوشستان إلى عُمان في مطلع الإسلام، وأكد بعض المؤرخين الأوروبيين الذين زاروا عُمان في القرنين السادس عشر، والسابع عشر الميلادي، أنهم وجدوا تجمعاً سكنية للبلوشستانيين ويؤكد غيرهم أنّ الوثائق التاريخية تؤكد أنهم استقروا فيها قبل ذلك بقرون.

وذكرت الباحثة د.هدى الزدجالية أنَّ الجمعدار شاه داد البلوشي أصبح والياً على ممباسا تقديراً لجهوده في فتح ممباسا. وقالت أيضاً إنهم شاركوا في الحروب الأهلية التي نشبتْ بين الإمام سلطان بن سيف بن سلطان اليعربي، وقد أتىَ بهم الإمام لمساعدته في حربه ضد بلعرب بن حمير.. كما ذكرت الباحثة أنّ "مير نصير خان اصبح صديقاً للسلطان "سلطان بن أحمد" الذي منحه منطقة جواذر الواقعة على ساحل مكران عام 1792م؛ وبذلك أصبحت جزءا أو قطعة من عُمان. وفي عهد السيد سعيد بن سلطان، كان العُمانيون يحكمون جواذر، وتشاهبار، وميناء جاسك بمكران بشكل مباشر، وقد ذكر الضابط البريطاني "جرانت" الذي زار المنطقة في العام 1809م "أن التجارة النشطة في تشاهبار كان يتقاسم أرباحها سلطان مسقط مع رؤساء القبائل المحلية، رغم أنَّ ميناء حاسك كان يحكمه (مير حاجي)، إلا أن السلطات كانت تدفع الضرائب لسلطان مسقط. وطبقا لروايات الرحالة الأوربيين الذين زاروا مسقط في تلك الفترة، فقد كانوا يؤكدون أنّ الوجود العسكري لأهل بلوشستان في عُمان كان بارزاً أيام السيد سعيد، فقد وصل عددهم في مسقط لوحدها إلى 2000 شخص، وكان الحرس السلطاني الخاص في العام 1825م يتألف من 300 جندي من بلوشستان. وتأكيدا على ذلك أن السيد سعيد بن سلطان اعتمد على المحاربين من بلوشستان لتثبيت سُلطته، والقضاء على بعض التمردات الداخلية التي واجهته، فعيّن "دره بن جمعة البلوشي" واليا على مسقط، وعيّن "إسماعيل البلوشي" على حصن سمائل.

وحينما حكم السلطان تيمور بن فيصل عمان (1913-1932) انتهج السياسة نفسها لمواجهة التمردات الداخلية التي كانت تعصف بالبلاد، واستعان بجنود من بلوشستان وشكّل أول كتيبة عسكرية مكونة من 300 جندي مكراني سميت بـ"كتيبة مسقط"، تم تجهيزها وتدريبها في مكران لحماية مسقط والطرق والكثير من المشاريع القائمة، وكقوة ردع لكل التمردات التي يواجهها السلطان.

وفي عهد السلطان سعيد بن تيمور "1932-1970م" استمرت مكران تزود الجيش العُماني بالجنود المخلصين للسلطان، إذ كان الكثير منهم حرسه الخاص، وكانت جواذر كعادتها تتبع مباشرة عمان، غير أن رئيس وزراء باكستان (لياقت علي خان) احتج على ذلك؛ باعتبار أن جواذر جزء من باكستان، ويجب استرجاعها عقب قيام دولة باكستان عام 1957م، فاقترحت بريطانيا أن تدفع الحكومة الباكستانية لعُمان مبلغاً مقداره 4 ملايين جنيه إسترليني تعويضاً لها على ممتلكاتها في جواذر، فتمَّ ذلك بموجب اتفاقية بين البلدين لتنفصل جواذر عن عُمان وتصبح ملكاً لحكومة باكستان عام 1957م، لتفقد عمان بهذا جزءا من ممتلكاتها في القارة الآسيوية والتي كانت تحت الحكم العماني منذ القرن الثامن عشر الميلادي.

لذا؛ ومن خلال تلك الشواهد التاريخية والأثرية الخزفية والأواني المعدنية المكتشفة برأس الجنز ورأس الحد على بحر عمان الكبير الممتد إلى أعماق بحر الظلمات؛ بدءاً من الدولة النبهانية ووصولاً لعهد اليعاربة العظيم ودولة البوسعيد، أنَّ وجود البلوش في عُمان لم يقترن بتلك الأحداث السياسية، لكن وجودهم في عُمان من حيث الامتداد البحري الطبيعي الذي يربط مكران وجواذر وبلوسشتان كعلاقة بحرية متينة وجدت منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد أو ما قبلها.

وخلاصة القول...،

إنَّ أهل بلوشستان جزء من مُكوّن المؤسسة العسكرية العمانية وقد شاركوا في مُهمات حماية الموانئ العمانية وحاربوا البرتغالييين وقاتلوا إلى جانب إخوانهم العمانيين، وكانوا القوة المُساندة والفاعلة التي شاركت في تثبيت الحكم العُماني بشرق إفريقيا قاطبة. خاصة في عهد الإمام سيف بن سلطان، الذي فتح ممباسا على يد قائد الجيش العماني ذي الشكيمة والعزم الجمادار شاه داد البلوشي الملقب بـ"شوت هان".

والسؤال الأهم في نظري: ألا يحقّ لعُمان العظيمة أنْ تحتفظ بحدود مياهٍ بحرية عميقة خاصة تلك التي تقع قُبالة جانبها الشرقي الجنوبي كامتداد لبحر عُمان الكبير أو كحدود مُستقلة تُعرف بالمحيط العُماني؟!

-----------------

المصادر:

ـ مجلة الدراسات العمانية، العدد (16)، وزارة التراث والثقافة - سلطنة عمان، 2010م.

ـ بحث د. هدى الزدجالية، وبحث أ. محمد العريمي.

- تاريخ كوادر وشاه بهار.

- بداية الارتباط بين جواذر وعمان 1784 – 1792م.

 

* كاتب عُماني

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة