أحربٌ في زمن السلام؟!

ماجـد المرهـون

majidalmrhoon@gmail.com

 

"في بُعدٍ آخر، يدق جرس الإنذار فينطلق المناوبون من أبناء الوطن إلى عالمٍ هم يعرفونهُ؛ حيث الزمن كائنٌ مادي، ومرشدهم هو الدافع الإنساني واحترام المهنة وإثبات الكفاءة".

****

نحن لا نعلم ما يدور في ذلك العالم، ولا حتى في الميدان، والأمور في أبعادنا المعروفة تبدو طبيعية باستثناء الوقت، بل نعيش في سلام وشعور الفرح، هو السائد مع هطول الأمطار بعد مسايرتنا النسبية لرحلتها السماوية، ولهذا الشعور وقع مريح على النفس لا يُمكن وصفه، كأنه انخفاض في مستوى الجاذبية الأرضية فتسمو الأرواح، وتتناقص أوزان الأجساد، وتصبح خفيفة مشحونة بالطاقة.. والمفارقة الغريبة أنَّ التعب والإرهاق باتا أمراً يسيراً مع طمأنينة التنقل ونشوة المسير، والكل يزايد على هذه الفرحة في باطنه وظاهره، وفيما يرسله وينشره.. وحُقَّ لهم ذلك.

ننطلق مُبكِّرين لمواقع الجَمالِ الحقيقي، وكل جمالٍ محفوفٍ بالمخاطر، لكنَّ الأخبار العاجلة بعد سويعات من التباشير تتراكم في سماء الواقع الافتراضي وتبرق بنبأ غرق طفل!

لا أدري لماذا الاستعجال في زف هذه الأخبار، ويصعُب عليَّ جدًّا تخيُّل مشاعر ذويه في هذه الأجواء بعد الضحى.

"مرحبا.. أين موقعك؟ في البيت. اقطع إجازتك وتعال، نحتاجك ضروري".

ننتقلُ كما ينتقل غيرنا بالتبادل في جداول زمنية متناقضة وانسيابية لمشاهدة موطن آخر من مواطن الجَمال في وطن الجمال، وفي القلب غصة على الطفل الغريق، وبصيص أمل العثور عليه سالماً هو عزاءٌ مؤقت للنفس.

مع أهازيج وفرح الأطفال، واستبشار وسعادة الكبار، وتصوير الشباب من المحترفين وغيرهم من الباحثين عن الشهرة في زيف المغامرة، ورجل أنيق تلوَّنت دشداشته النظيفة بالوحل، وضحكاتٍ خفية شامتة من زوجته، نكاد ننسى الحزن فيلطُمنا جديد الخبر قبيل الظهر بغرق ثلاثة أطفال.

"أهلاً.. أين أنت؟ في صلالة. غدا تداوم، نحتاجك للضرورة القصوى".

بدأ صَفو النفسيات التي استهلت يومها بالفرح يتعكَّر، والمزاج مع منتصف النهار لم يعد كما كان في البكور، ومواقع التواصل تمطرنا بالحمم، والسماء تمطرنا بالنعيم.

"نداء.. أجب: أغلقوا الموقع في المنطقة عندكم فوراً".

تميلُ النفس لمشاهدة إحدى العيون الجميلة بعد وقت الزوال، كما تميل الشمس المحتجبة خلف الغيوم، وعمود نور متمرد يشير إلى الشرق، فقلنا القفول سريعاً، وإذ بأنظارنا تتسلق القمم المتوشحة بالبياض المنساب على حلل سندسية، فجاوزنا الشلال والعقول مشدوهة لينبهنا هديره الجاذب بالعودة إليه حتى إذا وليناه ميامننا وجدناه مغلقاً لوجود حالة بحث عن غريق.

"الموج عالٍ، ونحتاج لمروحية وفريق الغوص".

يعُود زوار المواقع المغلقة أدراجهم مع زخات المطر المتقطعة، يتخللها رذاذ شارد باحث عن مكان جاف، لتستقر قطرات باردةٌ ملونة على شاشة النقال الساخن بين وصول فرق الإنقاذ ومفارق للحياة واستمرار البحث.

بعد الغروب، وفي عتمة العودة، يُضيء النبأ الأخير لليوم بسقوط عائلة في أمواج عاتية، ليُختم على رحلتنا بحزنٍ عميق مزاجه حرقة وحسرة.

"بعد يومين.. مازلنا في الموقع مواصلين البحث".

شهدنا ثلاث تضحياتٍ في أيام التشريق:

مُضحٍّ بنفسه في سبيل المُتعة والشُهرة والجهل شر حجة، ومُضحٍّ بنفسه في سبيل إنقاذ الآخرين والواجب خير حجة، ومضحٍّ ببهيمته في سبيل الطاعة وسُنة العيد في ذي الحجة.

تعليق عبر الفيس بوك