الأُمم الأخلاق (1)

 

قيمةُ الأخلاق

د. صالح الفهدي

سألني ابني: "بماذا تشبِّه الإِنسان الذي لا أخلاقَ له؟" أَجبتُه: "أُشبههُ بالشَّجرةِ الحاسرةِ من خضرتها، وثمارها، فهي مجرَّدَ جذعٍ باهتٍ، وأخشابٍ متفرِّعةٍ قبيحة المنظرِ، لا يُلقي منظرها في النَّفسِ أي شعورٍ عدا الأسى والكآبة!!، أما الإِنسان الخلوق فهو كالشجرةِ الخضراء النضيرة في شكلها، الباهية في منظرها، اليانعة في ثمارها، الوارفة في ظلالها، تُلقي في النفس شعوراً بالغبطةِ، والإِبتهاجِ، والإرتياح".

الأخلاقُ هي التي تجعلُ الإنسانَ إنساناً- بحق- إن هو امتلكها، وتفقدهُ من معانيهِ الإِنسانية إن هو افتقدها، هي التي تمنحهُ الشعور بالسلام الداخلي والرِّضا إن هو تشبَّث بها، وهي التي تُكسبهُ زينةً إن هو تزيَّا بها، وفي هذا يقول الإمام نور الدين السالمي رحمه الله:

وما زكى في المرء من خصالِ // يُعرف بالآداب في الأحوالِ

فحليةُ الرِّجال معنى الأدبِ // وحليةُ النِّساءِ لبس الذَّهبِ

الإنسانُ الخلوق يأسرنا دائماً بحسنِ أخلاقه، وهو صاحبُ المكانة الرفيعة يوم القيامة "إن من أحبّكم إليَّ، وأقربِكم مني مجلسًا يوم القيامة، أحاسنَكم أخلاقًا"(الترمذي)، ولا من شرفٍ أسنى من شرفٍ أسبغهُ الله على نبيِّه المصطفى- عليه الصلاة والسلام- مادحا إيَّاه بقولهِ عزَّ وجل: "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ"(القلم/4)، وكيفَ لا يكونُ المصطفى المختار مستحقاً لهذا الثناء الإِلهي الجليل وهو الذي بُعثَ لهذه المهمة" إِنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلَاق"(رواه أحمد)، وكيف لا يكون ذو خلقٍ عظيمٍ وقد أراده الله أن يكون قدوةً لأُمَّته" لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا "(الأحزاب/21)، والأُسوةُ الحسنة هي كمالُ الأخلاق، وهي أعظمُ ما نتمثَّلُ بها رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم.

الأخلاقُ اليومَ هي الدرعُ القوي الذي يحصِّنُ الإِنسان مما ينهالُ عليه من محرِّضات شهوانيةٍ تناغشُ النفس، وتنصبُ لها الفخاخ في كل مكان للإيقاعِ بها، وإسقاطها في براثن الرذيلة، والفاحشةِ، والغواية، وعند ذاك تتهتَّك، وتتبذَّل، وتضيع في متاهات ليس من السَّهل الخروج منها، ومستنقعات ليس من اليسير التحرِّر منها، إنَّها الضلالة التي تُفقدُ الإنسان معنى وجوده، وقيمة أهدافه، وكل معنى جميلٍ في الحياة.

التحديات الأخلاقية التي نواجهها اليوم لا يمكن أن نواجهها إلَّا بالتحصين الأخلاقي لأبنائنا، وأول ذلك بأن نكون نحن قدواتهم الأخلاقية التي يتأسُّون بها بعد تأسِّيهم برسولهم الكريم، إذ لا يمكن أن تُراهن أيَّة أمةٍ على صلاحها دون أخلاق، فوجودها معقودٌ على تشبُّثها بالأخلاق، هكذا يخلصُ أمير الشعراء أحمد شوقي في بيته المشهور:

وإنَّما الأُمم الأخلاقُ ما بقيت // فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ويقول في بيت آخر:

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم // فأقم عليهم مأتما وعويلا

هكذا نرى الأُمم التي تشهدُ انحداراً في الأخلاق وهي تتفكك اجتماعيا بتفكك كيان الأُسرة كما يحدث في الغرب اليوم، والأسرة هي نواة المجتمع يصلح أو يفسد بها، تهاوت فيها الأخلاقيات؛ لأنها أعرضت عن الدين الذي هو مصدر الأخلاق السامية، ففقدت المرجع الذي تعود إليه، ولم يعد أمامها من (رادع) سوى القانون الذي ساند تهاوي الأخلاق، ورفع سقف الحريات حتى تعدَّى الإنسان على فطرته، وتخبَّطَ في جنسه، وأصبح عبداً لأهوائه ونزواته، فأصبح المحافظ على قيمه، المعارض له في انحلاله هو "الغبي" و"القمعي"و"الرجعي"، أما من يوافقه على تفسُّقه، وميوعته هو "المثلي" و"المتفتح".

على أنَّ ذلك لا يضير الأُمم التي تعتزُّ بأخلاقها الرفيعة لأنها تعدَّها هي الأساس الذي تقومُ عليه، فهي غيورةٌ على مقدساته، حريصةٌ على مكتسباته، متفاخرةٌ بقيمه، وهذا ما يجعلنا دائماً ما نراهنُ على أُممنا ومجتمعاتنا في نظرتها نحو أخلاقها، وتمسِّكها بكل معنىً من معانيها.

إننا ندرك يقينا أنَّ الأخلاق هي مصيرنا، وأن أيَّ مساسٍ بها سيكون ذلك مضرا على مصيرنا ومصير أجيالنا القادمة.