د. صالح الفهدي
كانَ الطالب المكبُّ على مذاكرته للاختبار يرمقُ بعضًا من زملائهِ وهم يقضونَ وقتهم في اللَّعب، فيغبطهم على الترفيهِ والأُنس، وتتحرَّقُ نفسه لمُشاركتهم، وتزيدهُ نفسه حديثًا فتقولُ له: هُمْ مرتاحون بينما أنتَ تُشقي نفسك!، مَرَّتِ الأعوام تلو الأعوام وقد أصبحَ الطالبُ مديرًا في إحدى المؤسسات المرموقةِ، حيثُ كانَ مُجتمعًا بأحد المسؤولين في مكتبِ الأخير حينما دخلَ عليه أحدُ زملائهِ الذين كانوا يلعبونَ في الوقتِ الذي كان يجتهدُ فيه مذاكرًا للاختبار، رآهُ وهو يتصبَّبُ عرقًا، متأبِّطًا ملف أوراقه، جاءَ يسألُ عن وظيفةٍ في تلك المؤسسة، فاسترجعَ ذلك الموقف الذي مرَّت عليه أعوامٌ عديدة، وجال في خاطره قول أمير الشعراء:
بصرت بالرَّاحةِ الكُبرى فلم ترها
تُنالُ إلا على جسرٍ من التعبِ
منطقة الراحة يسمِّيها الإنجليز "Comfort Zone" وتُعرَّف على أنَّها "حالة سلوكية يُمارسها الشخص بلا توتر أو خطر بسبب اعتياده على ممارستها ضمن إطار روتيني محدد. ينتج عن هذا الروتين تكيّف ذهني يعطي الشخص شعورا غير واقعي بالأمان وفي نفس الوقت يحد من قدرته على التقدم والإبداع".
"منطقة الراحة" هذه هي الإطار الضيِّق أو لنقل السِّجن الافتراضي الذي يحبسُ فيه الشخصُ نفسه ظنَّا منه أنها على ضيقها، وعلى الأسوار التي تحدُّها هي الراحة التي لا يريد تغييرها داعيًا ربَّه "الله لا يغيَّر علينا" لأنه يرى في التغيير وإن كان إيجابيًا خطرا عليه، فهو لا يتمتَّع بالجسارة والجرأة لمواجهة عواقب التغيير، لهذا يفضِّل أن يظلَّ على حالهِ في "منطقة الراحة" حتى وإن فسدتْ بيئتها، وخمَّت رائحتها.
ولهذا تجدُ أشخاصًا أسرى في "منطقة الراحة" منذ عشرات الأعوام سواءً كان ذلك الأسرُ فكريًا أو نفسيًا أو اجتماعيًا أو ماديَّا أو مهنيًا فتجدُ الواحدُ منهم هو نفسهُ لم يتغيَّر عن الصورة التي رأيته بها، ولم يخرج عن القالب الحياتي الذي شهدتهُ عليه!
أستذكرُ بين الحينِ والآخر بيتًا للشاعر العباسي أبي الحسن الجرجاني حفظتهُ منذ أن كنتُ في المرحلة الإعدادية، وللطرافةِ فقد وجدته معلَّقًا في "مزرعة بيع الدواجنِ" ولا أعلم رابطَ المعنى ببيع الدواجنِ إلا أن صاحبها -ربما- يشدُّ على همَّته وهمَّة غيره بهذا البيت الشعري الذي تفاجأت أن معلم اللغة العربية قد حفظه أيضًا من تلك المزرعة! يقول البيت:
إذا أنت لم تَزرَع وأبصرتَ حاصدًا
ندمتَ على التفريط في زَمَنِ البَذرِ
في دراسة الأبعاد الثقافية للمجتمعات التي أجراها خبير علم النفس الاجتماعي الهولندي (جيرارد هوفستيد) كان من ضمنها بعد "تجنب المجهول uncertainty avoidance" ويعني به مدى ما تتمتع به المجتمعات من قدرة واستعداد لمواجهة المجهول غير الواضحِ وغير المؤكد في المستقبل، ومقدار ميل الأفراد في المجتمعات إلى المخاطرة والمغامرة وتغيير الواقع واستبداله بآخر جديد، وتذوق شعورٍ مختلف من أسلوب ونمط الحياة، وقد جاءت نتيجة المؤشر فيما يتعلق بالعالم العربي مرتفعة (%68) على أن هذه الدراسة قد أُجريت في الثمانيات من القرن العشرين وقد يكون المؤشر منخفضًا بعد ما يقارب الأربعين عامًا، لكننا نجدُ أن هناك ما يعزِّز هذا المؤشر في ثقافتنا من مثل "اصبر على مجنونك لا يجيك أجن منَّه"، يقول الكاتب د. عبدالله العمادي في هذا المثل: "لكن هذا المألوف أو هذا المجنون الذي تريد الاستمرار معه إن صح التعبير، حتى لو وفَّر لك الأمان، فهو ينزع عنك متعة تجربة الجديد والاستمتاع بالمجهول، الذي يكون في الغالب مثيرًا وفرصة كبيرة لتحصيل المزيد من الخبرات الحياتية التي لا تأتي من خلال الاعتياد على الروتين، أو المألوف من الأعمال والمهام الحياتية اليومية".
ولكي نكون منصفين فإنَّ "منطقة الراحة" قد تكون منطقة الخيارات الملائمة، والإنجازات المأمولة للإنسان الذي يشعرُ فيها بأنَّه يقدِّم ما يتجاوز الروتين الممل إلى ما يشعرُ به أنه يُساهم في إنجازِ عملٍ مهم ضمن منظومةٍ وطنيةٍ أو مؤسسية أو اجتماعيةٍ كمثل ذلك العامل الهندي الذي يصنع مسامير للطائرات قائلًا إنه يصنعُ طائرات، أو العامل الذي يكسرُ الأحجار قائلًا أنه يبني صرحًا عظيمًا، تقول الكاتبة رغد شام:" قد تكون منطقة الراحة هي منطقة قوة وثقة ورضى. وقد تكون كل الأهداف التي تركض طيلة حياتك خلفها ماهي إلا ما تركته وراءك لتبحث عنها! فنحن نلهث وراء الحصول على الرضى والسعادة اللتين قد تكونان موجودتان أصلًا ضمن منطقة راحتنا".
لكننا نقصدُ بـ"منطقة الراحة" هي منطقة انطفاء المواهب، وخمول المهارات، وكسل الأعضاء، وخمود العقل، هذه المنطقة هي التي يفترضُ أن يغادرها الإنسان متمردًا بذلك على نفسه ليصنع له واقعًا مختلفًا يخرجُ ماردهُ من الزجاجة، ويجدِّدُ فيه الحيوية والعزيمة والتطلعات فيكون إنسانًا مختلفًا عن سابقه، ولنا في الواقع أمثلةً من الناس الذين قرروا ترك "منطقة الراحة" لنراهم فيما بعد متميِّزين، وقد تغيَّر واقع حياتهم، بل وتغيَّر إدراكهم، وهيئاتهم إلى الأفضل.