عصر السوبر ماركت

 

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

تحدث الكاتب إريك فروم في كتابه "الانسان بين الجوهر والمظهر"، عن نمطين من الشخصيات؛ شخصية تحب التملك، والأخرى تبحث عن كينونتها..

الأولى تتعامل مع الطبيعة كملكية شخصية؛ لذلك تلجأ إلى قطف الوردة لامتلاكها. أما الأخرى تتأمل الوردة في مكانها دون اقتلاعها من جذورها باعتبارها كائنا يستحق الحياة.

الحياة تغيرت في "عصر السوبر ماركت"، فكل شيء قابل للبيع والشراء، وقد انتشرت نزعة الامتلاك والاستحواذ بين بني البشر، وهي حالة غير صحية تهدد الحياة على كوكبنا، فالسكان في ازدياد والموارد الطبيعية تتناقص أمام جشع الإنسان، الذي لا يكتفي بإشباع حاجاته الأساسية، فأصبح يقتني الأشياء حتى وان كان لا يحتاجها من أجل التفاخر.

قبل حمّى الرأسمالية كان الإستهلاك التفاخري مرتبط بالمكانة الإجتماعية والطبقة الغنية المترفة، أما اليوم فإن الطبقتين المتوسطة والفقيرة هي التي تميل إلى الاستهلاك المفرط أكثر من الطبقة الغنية. قيل عن الأديب التشيكي كافكا "أنه لا يقرأ الإعلانات.. حتى لا يقضي وقته في اقتناء الأشياء" نعم هذا ما تؤكده الدراسات التي تؤكد أن التعرض المباشر لإعلانات السلع والعروض الترويجية، يحسم قرار الشراء في أغلب الأوقات وإن كنت لا تحتاج إلى تلك السلعة أو الخدمة.

إن نزعة الاستهلاك الترفي صناعة بشرية بحتة، وليست من الفطرة في شيء، لقد تحولت الحضارة الإنسانية المعاصرة إلى سوق ضخم، تديره الأنظمة الإنتاجية والإستهلاكية، وتحكمه قانون الربح والخسارة، كمحصلة للفكر الليبرالي الحديث، القائم على مفهوم أن السوق يجب أن يستوعب الأنشطة الإنسانية والعلاقات الإجتماعية والإقتصادية، بحيث يتم تعظيم دور القطاع الخاص وتقليص دور الدولة.

نحن نعيش عصر "السوبر ماركت" في أزهى أوقاته، التي تنظر إلى الإنسان على أنه مستهلك فقط للكم الهائل من المنتجات والخدمات والأفكار، التي تُصنع كل ساعة حول العالم. ولعب الإعلام دورالمروج. في السوق، لكل شيء ثمن إلا المستهلك، يُرى كأداة لتحقيق الأرباح.

إنها ثقافة تعظِّم اللذّة والإثارة والشكل على حساب كل شيء، بما فيها الصحة وسلامة الكوكب. أصبح الانسان قابلا للقولبة والتنميط وفقا لرغبات السوق، فلا نجد اختلافات كثيرة في العادات الاستهلاكية بين المجتمعات التي باتت متشابهة.

إن الاستهلاك الترفي منتشر لا سيما بين الأجيال الشابة، لتحقيق الوجاهة الاجتماعية والتفاخر، حتى أضحى الإنفاق أكثر من الدخل، لوجود محفزات كثيرة كسهولة الاقتراض والتسوق بالأقساط والتسوق الإلكتروني واستغلال المشاهير في الترويج ...إلى آخره، فالمغريات كلها تنصب في صالح السوق، وتقود المجتمع إلى نمط استهلاكي مظلم.

البعض بات يقترض حتى يحظى برحلة استجمام أو شراء ثوب زفاف لمصمم عالمي، أو يصرف كل ما يملك لشراء نظارة شمسية باهظة الثمن أو أحدث اصدار لهاتف ذكي نرى ونسمع الكثير من القصص التي تبين أن السلوك الاستهلاكي لم يعد يقتصر على الحاجة، فالترف والوجاهة سيد الموقف.

من يقرأ عن مستويات الدخل ويرى ارتفاع الأسعار يتساءل: من الذي يعاني من ضيق العيش وتبعات ارتفاع الأسعار، والموائد تمتلىء بما لذا وطاب من المأكولات في المناسبات، والتي قد ينتهي بها المقام في سلة القمامة، والأسواق والمقاهي لا تخلو من الرواد؟ من الذي يعاني من ارتفاع الأسعار. اذا كنا نشاهد السيارات الفارهة تجوب الشوارع، أكثر من السيارات الاقتصادية.

النزعة الاستهلاكية لا تعكس وجود مشكلة! ولكن هل المشكلة في الوفرة أم أن الانسان قد أدمن التسوق حتى فقد القدرة على كبح رغباته؟

يبرر البعض نزعته الاستهلاكية بقوله "أصرف مافي الجيب يأتيك ما في الغيب"، ولا يؤمنون بأن القرش الأبيض قد ينفع في الأيام الرمادية القادمة، نتحمل نحن كأفراد مسؤولية تغييرعاداتنا الاستهلاكية فلا يجب أن ننساق بلا وعي لمغريات السوق.

إن مصلحة الفرد والمجتمع واحدة، وكي يزدهر المجتمع وينمو، عليه تصحيح ثقافته الاستهلاكية وتوجيهه نحو الإستدامة، وتغييرالأنماط القائمة إلى أنماط تراعي مخاطر الإسراف على البيئة والتغير المناخي.

الكل مسؤول عن معالجة المسألة، فالاستهلاك التفاخري وباء، يدفع الإنسان لاستهلاك خارج عن احتياجاته الفعلية، وتحمله أعباء مالية تفوق قدرته على الاسترداد، وتؤثر على إنتاجيته وعلى اقتصاد الدولة، لذلك وجب البحث عن جذور المشكلة واستئصالها.

تقع المسؤولية على الجميع من بنوك ومؤسسات التمويل والتعليم والإعلام والمؤسسات الحكومية والخاصة والمجتمع المدني، الكل جزء أصيل من المشكلة وكذلك الحل.. في الوقت الذي يخطو الاقتصاد خطوات بطيئة نحو التعافي من تبعات الجائحة، حتى دخل العالم في نفق الآثارالسلبية للحرب الروسية ـ الأكرانية والتضخم وارتفاع الأسعار، والتغيرات المناخية... كل المؤشرات تنذر بأن زمن الرفاهية قد ولّى، وحان الوقت لإعادة ترتيب أولوياتنا المالية والتركيز على الضروريات، وتحفيز المجتمع على الطرق المثلى لإدارة الأموال، والتسوق الذكي والصحي، قيل في الأثر"من اشترى ما لا يحتاج إليه باع ما يحتاج إليه".

باحثة عمانية