هل هو تمهيد لعودة تحرير الوقود؟

 

د. عبدالله باحجاج

عندما يصرح معالي وزير المالية أن هناك 600 مليون ريال ستتحملها الحكومة هذا العام بسبب تثبيت سعر الوقود، فهذا أكبر مؤشر استدلالي يُفهم منه احتمالية عودة تحرير أسعار الوقود في "موازنة 2023"، وعندما نربط هذه الفقرة بفقرة أخرى من تصريحه، وهي "هناك مبالغ دعم كبيرة تذهب في غير موضعها"، في إشارة لاستفادة جوارنا من الوقود العماني، عندها يتم تأكيد ذلك الاستدلال.. وهنا ينبغي أن نسأل معاليه عن الأموال الضخمة الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط، فمنذ 5 أشهر ومتوسط سعر نفطنا يبلغ أكثر من 100 دولار، فكيف لا يتضمن تصريح معاليه هذه المليارات فيما ينصب التركيز على تلكم الملايين؟ هل هناك من تفسير لهذه النظرة الأحادية؟

من خلال ما سلف، يظهر تصريح وزير المالية أنه يغرِّد خارج كل السياقات الوطنية بمختلف كل تطوراتها الإيجابية لمالية الدولة من جهة، ويغرد بعيدًا كذلك عن حجم الآمال الاجتماعية التي تترقب التخفيف من حالة الاختناقات الناجمة عن السياسة المالية منذ 2020. التصريح جاء ليبدد هذه الآمال رغم الفوائض المالية الضخمة، والتفاؤل الكبير والمتصاعد للاقتصاد العماني، وهذا التصريح قد أصبح يلامس وعينا بخلفيات التنظيرات المالية التي أصبحت تقود الإصلاحات في بلادنا، وهي تنظيرات في الغالب مجردة من أية اعتبارات اجتماعية وسياسية.

إنها تعني أن السياسة المالية والاقتصادية قد أصبح يؤطرها فكر أيديولوجي جديد منذ عام 2020، وستمضي قدمًا في تحقيقه بصرف النظر عن ارتفاع أسعار النفط والغاز أو حتى بعد إقامة اقتصاد مستدام.. إلخ، ولنا في تركيز الدعم والحماية الحكومية للفئات الأكثر تضررًا، ما يضعنا مباشرة في مواجهة الفكر الأيديولوجي للسياسة المالية والاقتصادية. وأتابع هذا الفكر "تنظيرًا وتطبيقًا" منذ 6 أشهر على الأقل، وأقتربُ الآن من كتابة بحث بعنوان "هل تصلح النيوليبرالية لإعادة صناعة الاقتصاد والمجتمع في بلد كسلطنة عُمان؟"، ويقف الدافع وراء هذا البحث طبيعة أدوات السياسة المالية التي تنهال بصورة متتالية ومتراكمة بسرعة زمنية فائقة منذ عام 2020، وكأنها في سباق مارثوني لتحطيم الأرقام العالمية، وتستهدف المنطقة الاجتماعية حصريًا، وبدأت معها ظاهريًا، وكأنها -أي السياسة المالية- قد اكتشفت منجمًا من الذهب داخل المنطقة الاجتماعية، تحاول أن تضع يدها عليه سريعًا قبل الآخرين.

فتصريح معاليه يركز هنا على 600 مليون دولار؛ أي على سياسة تحرير الوقود التي نجمت عن الأزمة النفطية وجائحة كورونا، فأين بلادنا الان من هاتين الازمتين؟ كما إن الاصرار على التطبيق الحاد والمؤلم اجتماعيًا لخطة التوازن المالي، دون التخفيف منها، أعزوه الى الفكر المسيطر على سياستنا المالية والاقتصادية، وتسخير الفاعلين الجدد لتطبيقه "ماليًا وتشريعًا"؛ لذلك سيظل تحرير الوقود سياسة مالية ثابتة ما لم تتدخل السياسة كعادتها، وحتى في هذه الحالة ستظهر وكأنها رحمةً بالفئة الأكثر تضررًا فقط، رغم أن أغلب أفراد المجتمع يدخل في هذه الفئة، وحتى تدخلها لتلكم الفئات يأخذ الطابع المؤقت أو الجزئي فقط.

وأيّة تدخلات لجهة الأكثر تضررًا من معيار الحد الأدنى للأجور (325- 400 ريال) هي في الواقع قفز فوق الآلام الاجتماعية الناجمة عن الفكر الذي تطبقه السياسة المالية؛ لأن الهاجس ليس إلغاء السياسة أو بعض أدواتها المالية، وإنما تحسين شروط تطبيقها، ليس بصفة دائمة، وإنما مؤقتة، مع إبداء المرونة في التطبيق عند تصعيد حالات الاستياء الاجتماعي، مثل تثبيت تسعيرة الوقود، واذا ما استمرت هذه السياسة في التطبيق، فإننا لا بُد أن نطرح التساؤلين التاليين: متى سنودع ما تبقى من الدولة الاجتماعية؟ وهل هذا سيكون في صالح الاستقرار الاجتماعي في حقبة التحديات المتعددة؟

لن تُنسى حقبة الوقود الرخيص في محطات الحدود الإماراتية المجاورة لبلادنا، والتي كان الكثير من العمانيين يستفيدون منها، وما يحدث الآن العكس في محطات الوقود في مناطقنا الحدودية بقدر ما يجعلنا ننظر إليها إيجابًا وليس قلقًا، لكنه يُحتّم التنظيم وليس التصريح بالقلق، كما ورد في تصريح معالي وزير المالية، والفقرة التالية لمعاليه "ما يحدث في محطات الوقود في المناطق الحدودية يقلقنا، وهناك مبالغ دعم كبيرة تذهب في غير موضعها". أنظر إليها ببعد محلي أكثر من خارجي، ويتم توظيف هذا الأخير لتعزيز حجية عودة تحرير الوقود في بلادنا، وهو التفكير نفسه الذي بني عملية التحرير منذ البداية على أساس أن الوقود المدعوم يستفيد منها كذلك الوافدون في بلادنا.

فعوقب المواطن بالوافد، وكأن ليس هناك حلول أخرى، كمنح علاوة للمواطن تميزه عن الوافد، وتعينه على مواجهة تبعات تحرير الوقود، فتم التحرير، وشهدنا حالات الاستياء الاجتماعي تتصاعد مع ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية حتى تدخلت السياسة، وثُبِتت الأسعار عند آخر المرتفع منها، والتفكير نفسه يعيد مضمونه مجددًا، ودون تقديم حلول أخرى؛ كتمييز السيارات العمانية عن غيرها مع وجود سعرين، أحدهما محلي، والآخر دولي، وهذا مقترح متداول.

لا ينبغي أن تترك السياسة المالية وحدها لصياغة مرحلتنا الوطنية الجديدة، فكان يُفترض أن تشارك نظيراتها الاقتصادية؛ إذ من اختصاصاتها مراعاة التوازن بين مجموع المصالح الاقتصادية والاجتماعية، وهذا لم يحدث حتى الآن، كما يفترض أن تتم المشاركة مع مجلس الشورى، وهذا أيضا غائب؛ لذلك تظل السياسة المالية اللاعب الأوحد في الساحة، ربما كان إبان الأزمة المالية ما يُبرر ذلك. أما الآن فدواعي الشراكة يُحتمه حرصنا على الاستقرار الاجتماعي وديمومته، في ضوء ما سبق ذكره من تطورات مالية كبرى لا تنعكس على المجتمع؛ بل ويظل الفكر المالي، وكأنه لم يغادر مخاوف الأزمة المالية، والأخطر أنه لا ينظر للتحديات الجيوستراتيجية التي تتأسس الآن بعين الاعتبار، وهذا طبيعي؛ لأنه ليس من صلاحياته، وإنما صلاحيات الشركاء الآخرين.