هل نبقى مكتوفي الأيدي؟!

 

د. صالح الفهدي

قال حاكم فلوريدا، رون ديسانتيس Ron DeSantis: "إذا أرادت ديزني خوض معركة، فإنهم اختاروا الرجل الخطأ"، وذلك بعد أن عارضت شركة والت ديزني مشروع قانون وقَّعه، يحظر بموجبهِ تعليمات الفصل الدراسي حول "التوجه الجنسي" و"الهوية الجنسية"، مع الأطفال في عمر الصف الثالث أو أقل "أو بطريقة غير مناسبة للعمر أو مناسبة من حيث النمو للطلاب وفقًا لمعايير الولاية"، وقد عارضت الشركة القانون وتعهَّدت بالنضالِ لإلغائه؛ لأنها اتخذت سياسة قذرة في دعمها للشذوذ الجنسي.

الموقف البطولي والمشرف لهذا الحاكم هو جدار الصد الذي يجب أن تواجه به والت ديزني وغيرها من الشركات التي تتبنى سياسة المحتوى الشاذ لتغرسه في عقليات الناشئة، كما أن موقفه يدلُّ على أنَّ الغربَ لا يتفق جميعه على الإخلال بالقيم الإنسانية الأصيلة، وتمييع الفطرة السويَّة، وهو موقفٌ يعارضُ ما يتبنَّاه السَّاسة من أمثال وزير الخارجية الأمريكي الذي يبدو أنه يناضل باستماتة لدعم الشذوذ الجنسي، قائلًا: "إن بند المثلية هو بند ثابت في كل مناقشاتنا مع السعودية..!!" أما السعودية فستظل – بعونِ الله- حصنًا حصينًا أمام هذه الانحرافات الشاذة، وسدًا منيعًا لدرءِ هذه الحملات الطاعنة لروح العروبة والإسلام.

تستمرُّ والت ديزني وهي الشركة التي ارتبطت بصناعة الترفيه الطفولي في محاولاتها لغزو العالم الإسلامي، بيدَ أنها أعلنت عن أنها محبطة بعد أن تم حظر فيلمها الجديد "لايتيير Lightyear" في 14 دولة في الشرق الأوسط وآسيا، من بينها السعودية ومصر وإندونيسيا وماليزيا، وسلطنة عُمان، بسبب ما يتضمَّنه من لقطات تحضُّ على الشذوذ الجنسي.

شركة "نيتفليكس" هي الأُخرى أُنشئت لنفس الغرض، وأغلب أعمالها قائمة على الشذوذ الجنسي المقحم في قصصها؛ بل إن موافقتها على دعم أي مشروع مشروطة بتضمينه ما يدعو إلى الشذوذ الجنسي بأنواعه.

نحنُ اليوم أمام تحديات جسيمة تقودها كبريات شركات صناعة الإعلام والترفيه والأيديلوجيا، وهذه لا تخرج إلى العلن فجأة بدون تخطيط، أو في مدَّة قصيرة، بل إن وراءها جماعاتٌ لها عقائد ضالة تريد أن تنشرها في العالم على حساب المعتقدات والأديان السماوية، ومنها جماعة النوارنيين التي تأسست كجماعة سرية عام 1776م على يد الفيلسوف الألماني وأستاذ القانون الكنسي يوهان آدم وايسهاوبت، ويقول الباحث والمؤرخ مهنا حمد المهنا: "لاحظوا أن النورانيين يؤكدون دائمًا وأبدًا على فكرة (الحرية) كحرية التعبير، وحرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرية اللبس، وحرية الجنس، وحرية الطعام، وحرية العلاقات الجنسية، وحرية الشذوذ، وحرية المثلية، ما عدا حرية واحدة يحاربونها ويحقرونها ويقصونها وهي حرية (الدين)؛ لأن الدين هو ما يفشل خططهم"!

إنها لمسؤولية تاريخية تقع أولًا على حكوماتنا ومؤسساتها المعنية قبل أن تقع على المجتمعات في تحصين الناس، وتوعيتهم بهذه الانحرافات الشاذة التي تتساوق رسائلها وأعمالها المدعومة بموازنات ضخمة.

وعلى الحكومات أن تقوم بواجبها في بناء الإنسان بناءًا قيميًا ممنهجًا؛ فلا غنى لأية رؤى اقتصادية إن أُهمل بناء الإنسان؛ إذ هو محور التنمية، وهو أساس الحضارة، وهو قائدُ التغيير؛ فإن كان هشًا ضعيفًا أمام هذا الغزو الشهواني المقيت تداعى أمامها وخار، أمَّا إن كان بناؤه قويًا بما يكفي للوعي بآثار هذا الغزو الشاذ فإنه لن يتمكَّن منه بل سيزيدهُ ثباتًا على هويته، ورسوخًا على قيمه.

قال لي أحدهم حينما علم مني أن ابني يدرسُ في المملكة المتحدة بطريقة تنمُّ عن سفاهته وسُخفه: "هل ركَّبتَ له كاميرًا في شقته لتراقبه؟" أجبته: "نعم ركَّبتُ له كاميرا ولكن ليس في شقتهِ وإنَّما في ضميره؛ فقد أنشأته على القيم الأصيلة، وربَّيته على الأخلاق الفاضلة، وبذلك حصَّنته تحصينًا مكينًا، وأسلمته مسؤولية نفسه".

أقول إن الحكومات مسؤولة أمام الله عن شعوبها وما تتعرض له هذه الشعوب من حملة شعواء ممنهجة لضرب كيان الأُسرة التي هي نواة المجتمع، وتفسخ الأخلاقيات، وتهتُّك الأعراض، وتستطيح الخصوصيات، وكشف الحُرمات، وعليها أن تقوم بمشاريع لتحصين الشعوب وأول ذلك الاعتناءُ بالنشء والشباب إذ لم يعد التعليم ذا قدرة على بناء الشخصية الإنسانية، ولم تعد الأسرة ذات مكنة تربوية حصيفة من تربية أبنائها. وهُنا يجب على الحكومات أن تفكر بوعي في المستقبل الذي تدعو بحسب رؤاها البعيدة إلى أن يكون مشرقًا ومزهرًا، كيف للمستقبل أن يكون كذلك إن لم تضع الحكومات تعزيز القيم والأخلاقيات على رأس قائمة أولويات مشاريعها الإصلاحية ليقود هذا الإنسان عملية تحسين المستقبل؟!

أما المجتمع بأفراده وجماعاته ومؤسساته المدنية فهو معنيٌّ بصورة ماسَّة وحازمة للقيام بمشاريع أخلاقية تصلح القيم، وتقيم ما اعوجَّ من مفاهيم، وترمم ما تهالك من عادات، وتصحح ما تقادم من مباديء، وتعين على بناء الشخصية الإنسانية السوية، ويكون لها اليد الطولى في بث الوعي للغزو المنحرف الذي يدعو إلى المفاسد والفجور والبغي، فما يكون لهذه المجتمعات من خيرٍ إن لم تقم بواجبها، وما يكون للحكومات من حكمة وحنكة ورؤية وعِماد إن لم تعضِّد الإنسان بالقيم الرفيعة التي تعتبر الدرع الذي يقيه سهام الأفكار الشاذة، والحركات المنحرفات، والعقائد الفاسدة، ولنثق بأن الله هو معيننا على هذا النضال لعزة أخلاقنا، ونصرة قيمنا، ورفعة شأننا.