علي بن مسعود المعشني
ali95312606@gmail.com
يُحاول الكيانُ الصهيوني بين حينٍ وآخر إنعاشَ أنفاسه الأخيرة في المنطقة عبر القيام بضربات عسكرية، أو عمليات استخبارية نوعية، في جغرافيَّات دول الممانعة. ويعلم الكيان أنَّ هذه العمليات في بدايتها ونهايتها ليست سوى قرصنات يائسة للتطمين بالداخل والاستعراض بالخارج بأنَّ الكيان ما زال قوَّة لا تُقهر في المنطقة، بينما يعلم الكيان في المقابل أنَّ هذه القرصنات لا أثرَ يُذكر لها على الصعيد الأهم، وهو التأثير على إستراتيجية المقاومة ومكوناتها وتحالفاتها؛ فالعمليات اليائسة التي يقوم بها الكيان الصهيوني بين حين وآخر، لا تتعدَّى البريق الإعلامي والاستعراض، بينما لا تحقق شيئًا يُذكر غير ذلك.
وقد شكَّلت حرب يوليو (تموز) 2006م بين المقاومة اللبنانية والكيان الصهيوني، مِفصلًا تاريخيًّا حادًّا في تاريخ الكيان، وفي أعين المفتونين بقوته والمراهنين على تفرده والخاضعين لإرادته؛ حيث بيَّنت تلك الحرب تفوق الإرادة والحق على التطفل التاريخي والقوة المسلحة بلا عقيدة وبلا حق. وحين نطوي الأحداث ونتجاوز التواريخ سريعًا في المنطقة ونعرِّج على الأهم، يُمكننا القول إنَّ أخطر مؤشر زعزع كيان العدو وأشعره بالزوال الحقيقي بعد ملحمة يوليو (تموز)، كان الحرب والمواجهة مع فصائل المقاومة بغزة عام 2012م؛ فهذه الحرب ليست كسابقاتها لا في الزمان ولا في المكان ولا في القياس والمؤشرات؛ حيث وُقتت في زمن انشغال عميق لحاضن المقاومة الأول وهي سوريّة في حرب كونية ضروس مع الإرهاب، وبالتزامن مع هيمنة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين -ذراع الصهيونية العالمية ووكيلها في الوطن العربي- في أكثر من قُطر عربي وعلى رأسها قلب الأمة مصر، وفوق هذا كانت نتائج العدوان صاعقة للكيان الصهيوني ولفيفه في المنطقة؛ حيث بيَّنت هذه الحرب أنَّ غزة لم تعد "حماس"، و"حماس" لم تعد غزة، وكما كانت الحال في السابق بعد تشكيل غرفة العمليات المشتركة بين كافة الفصائل، وبيَّنت كذلك أن حجم الأسلحة ونوعيتها لم تنقطع عن الفصائل الفلسطينية بغزة رغم إشغال الحاضن سورية، ورغم توصيل الإخوان للحكم، والأهم من كل ذلك هو لمس حجم التباين في فصائل المقاومة، وعلى رأسها حركة "حماس" بين تيار المقاومة المسلحة ودعاة الانخراط في فوضى ما سُمي بـ"الربيع العربي" وغنائمه الموعودة.
العَارِفون بتاريخ الكيان الصهيوني وتفاصيله السياسية والعسكرية، يُدركون حجم معاناته التراكمية، ويتفهَّمون مؤشرات قرصناته بين حين وآخر، والتي لا تُشكل شيئًا في البُعد الإستراتيجي للصراع، ويدركون أكثر أنَّ حجم المقاومة وخياراتها في تعاظمٍ يومي، ويدركون كذلك أنَّ أحلام الكيان في التموضع والتمكن والتفرد تتبخَّر مفرداتها كل يوم يمر على وجوده بأرض فلسطين. لهذا، فمُؤشرات الوهن والزوال جليَّة وآتية لا محالة؛ فالكيان الصهيوني لم ينتصر عسكريًّا منذ هزيمته بمعركة الكرامة مع الجيش العربي الأردني الباسل عام 1968م وحتى هذا اليوم، وكل انتصاراته كانت سياسية نتيجة ضعف وتردِّي أوضاع النظام الرسمي العربي بشتاته ووهنه ورضوخه للإملاءات الأمريكية، وتقبُّله طوعًا لكذبة "الجيش الذي لا يُقهر".
وثاني عظائم الأمور السياسية بالمنطقة هو قيام الثورة بإيران، وملئها لفراغ القوة بعد خروج مصر بمعاهدة كامب ديفيد عام 1979م، وصولًا إلى نشأة فصائل المقاومة تدريجيًّا بكل من لبنان وفلسطين بعد انحسارها وتقييدها بالأردن عام 1970م، وعبر الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982م، وكامب ديفيد بين الزمنين.
وقصف مطار دمشق اليوم وما قبله وما سيليه من عمليات قرصنة واغتيالات صهيونية هنا وهناك، لن يُغيِّر شيئًا في قواعد اللعبة على الأرض، ولا في إستراتيجية المقاومة، ويكفي قراءة مؤشر بيانات التأييد والنُصرة لسورية بعد عملية المطار من قبل فصائل المقاومة الفلسطينية بغزة، وعلى رأسها "حماس"؛ لتُعلن للعالم عن واقع المقاومة وتلاحمها اليوم، وكما كانت عليه قبل "الربيع العِبري".
"عملية المطار" أتَت بالتزامن مع زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن المرتقبة للمنطقة، وفي عمق الأزمة الأوكرانية وما يشهده العالم من تحولات وترقبات على الصُّعد العسكرية والسياسية والاقتصادية، ومع الفصل الأخير من فصول مفاوضات الملف النووي الإيراني، ومع التسويق الحاد للتطبيع و"الإبراهيمية" مع بعض الأقطار العربية، ومع التصعيد الشعبي على أرض فلسطين عبر نشوء محور "غزة - القدس"، وهذه الظروف والعوامل مُجتمعة ومتفرقة كذلك، يُقرأ منها تحولات كبيرة وخطيرة على صعيد الصراع العربي-الصهيوني لصالح المقاومة وثقافتها المتزايدة رأسيًّا وأفقيًّا؛ وبالتالي فمن العبث التوقف عند أحداث وتفاصيل صغيرة والتفكير بها كقصف مطار أو اغتيال هنا أو هناك، مع العلم واليقين بأنها تحصيل حاصل، وسلوك متوقع ومتجدِّد لكيان لا يقتات ولا يحيا إلَّا بها ومن خلالها، لتوحيد جبهته الداخلية الهشة وبرهنة وجوده الكاذب وقوته الزائفة.
-------------
قبل اللقاء.. الصراع بيننا والكيان الصهيوني لم يعُد صراعَ أسلحة وجيوش؛ بل أصبح صراعًا إراداتيًّا: البقاء والغباء.. وسينتصر البقاء على التطفُّل والغباء.
وبالشكر تدوم النعم...،