علي بن مسعود المعشني
قال الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديجول ذات يوم: "فرنسا تمتد من دونكيرك إلى تمنراست"، وهي مقولة دخلت التاريخ من باب الاحتلالات وسياسات الترهيب التي مارسها المستعمر الفرنسي على الجزائر بقصد التأثير السلبي على ثورات الشعب الجزائري وتحديدًا على ثورة جبهة التحرير الوطني الجزائري (1954- 1962) والتي كانت الأخيرة في سلسلة الثورات ضد المستعمر الفرنسي والحاسمة كذلك، ودونكيرك هي قرية صغيرة تقع بأقصى الشمال الفرنسي بينما تمنراست بلدة بأقصى الجنوب الجزائري.
وفي عام 1958م وحين تصاعدت وتيرة الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي وامتدت لكامل التراب الجزائري وانتقلت إلى قلب فرنسا زار الرئيس ديجول الجزائر وعرض عددا من المغريات على الجزائريين في كلمة له بمدينة قسنطينة شرق الجزائر مركز ثقل الثورة؛ حيث وعد الجزائريين بمئات الآلاف من الوظائف والمساكن والأفدنة الزراعية وحق التصويت، فكانت النتيجة عكسية وهي المزيد من التصعيد المسلح والذي أفضى إلى إعلان وقف إطلاق النار ثم مفاوضات "إيفيان" الشهيرة بسويسرا ثم استقلال الجزائر في الخامس من يوليو عام 1962م.
وجد ديجول ومعه الفرنسيون أنفسهم في معادلة وجود صعبة للغاية، وهي إما الاستمرار في حرب الجزائر أو الحفاظ على فرنسا من الانهيار التام بفعل استنزاف الحرب لموارد الدولة خاصة وان فرنسا أرهقتها الحرب الأوروبية الثانية (العالمية) كغيرها من الأطراف، كما لم تتمكن من الاجهاز على مصر- الحبل السري للثورة الجزائرية- من خلال العدوان الثلاثي عام 1956م.
حين نُسقط تلك الواقعة على قضية فلسطين اليوم نجد فيها الكثير من أوجه التشابه من حيث تفاوت القوة العسكرية بين فرنسا والمدعومة لاحقًا من حلف الناتو من جهة، والمجاهدين الجزائريين بأسلحتهم الخفيفة والمتوسطة من جهة ثانية، ولكن حين تحول الصراع إلى صراع وجود وإرادات، انتصر الحق والإرادة لأبناء الجزائر على آلة الحرب الفرنسية الضخمة الخاوية من عقيدة الإرادة والحق.
ففي فلسطين يتخندق الصهاينة بادعاءات تاريخية باطلة ويستقوون بأمريكا والغرب الاستعماري، لهذا نسمع ذات الأصوات النشاز تُعيد نفسها وتنتج الهزيمة بزعم الضعف المادي للعرب وعدم قدرتهم العسكرية على مواجهة أمريكا والغرب والذين ينصرون وينتصرون للكيان الصهيوني، ولا يستحضر هؤلاء دروس التاريخ وعبره للتفريق بين صراع القوة المسلحة وصراع قوة الإرادات.
تلك الاحتلالات لم تواجه وتُدحر سوى من فصائل مقاومة وحروب عصابات استنزفتها وأوجعتها وأرهقت جيوشها وخزائنها، فعادت تلك القوى صاغرة إلى جغرافياتها الأصلية وأجبرت على الانسحاب والاعتراف باستقلال مُستعمراتها.
الكيان الصهيوني ليست له جغرافية أصلية يهرب إليها من بطش فصائل المقاومة والتي أوجعته وتطورت عملياتها من طور إقلاق السكينة العامة إلى طور توازن الردع، فهرب إلى التطبيع و"الإبراهيمية"؛ لينتشر بين الأقطار العربية التي لا تقرأ التاريخ وما زالت تصدق خرافات اليهودية لتمرير الصهيونية، والعدو الذي لا يُقهر، والموساد اليد الطولى، ومن يحارب الكيان يحارب أمريكا والغرب بالضرورة، إلخ..
هذا الانتشار عبر التطبيع أو السلام المزعوم أو الإبراهيمية هو في حقيقته ترجمة صريحة للخطة (ب) من مشروع زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية، فبدلًا من وجود الكيان في جغرافية فلسطين يُصبح منتشرًا ومتواجدًا عبر جغرافيات عربية عديدة بأسماء مختلفة، ومن خلال ذلك يخترق القارات والأقطار التي كان لها موقف سلبي من الكيان بحجة احتلاله لفلسطين وتضامنًا مع النضال والحق العربي، والاختراق الصهيوني لأفريقيا اليوم خير مثال.
حين نستعيد بشيء من الوعي والعقل تجارب كل من مصر والأردن في التطبيع مع الكيان الصهيوني نجد كل مظاهر وأعراض مشروع الصهيونية العالمية والتي حشدت جهودها ونفوذها لغرس الكيان كأداة إضعاف للأمة العربية ومعطل لأي مشروع وحدوي أو نموذجي لها؛ حيث نجد تصفيات للعقول والاختراقات الأمنية والعبث بالأمن الغذائي والسكينة العامة والنسيج الاجتماعي، كلها من الأعراض الشاخصة لكل قطر مُطبع، وهذا يُدلل لكل عاقل على أنَّ الكيان الصهيوني ليس كيانًا سياسيًا يبحث عن أرض بعينها وسلاما وأمانا كبقية البشر؛ بل كيان وظيفي ومشروع صهيوني غربي بعيد المرامي والأهداف وليس له نظير في التاريخ أو الواقع المعاش اليوم.
كلما زادت وتيرة المقاومة وتصاعدت، زادت خُطى هرولة الكيان والغرب معه للتطبيع؛ لأنَّ التطبيع سيتكفل لهم بقمع المقاومة من قبل الأنظمة المُطبِّعة بحجة أن السلاح من شأن الدولة واختصاصاتها الأصيلة، وسيؤمن للكيان اختراقات مريحة ومثمرة عبر الاتفاقيات الثنائية والقوانين السارية في كل قُطر عربي بشأن التملك وحق التجنيس والاستثمار ....إلخ.
العرب اليوم أمام حالة تاريخية مفصلية شبيهة بحالة فرنسا في جزائر الثورة، فإما القبول بالتطبيع وتقوية الكيان وبسط التغلغل ومنحه المشروعية وبالنتيجة قضم أطرافهم وثوابتهم بأنفسهم خوفًا وطمعًا وزوالهم التدريجي عبر العبث بما تبقى من مفردات أمنهم القومي والغذائي، وإما التمسك بسلاح المقاومة ودعمه تلميحًا أو تصريحًا كخيار أوحد للبقاء وجعل قضية فلسطين شأنًا فلسطينيًا صرفًا، ما لم تكن أبعد من ذلك، هنا فقط سيرحل القطعان أشتاتًا إلى مواطنهم الأصلية أو سيختلقون أرض ميعاد جديدة، وهذه نهاية وديدن كل مُحتل عبر التاريخ.
قبل اللقاء.. استدعاء التاريخ ضرورة للعبرة وأحيانًا لفهم الحاضر؛ كون الحاضر هو الوليد الشرعي للماضي، ولأنَّ المستقبل هو الوليد الشرعي للحاضر، فالتاريخ صناعة وليس قدرا.
وبالشكر تدوم النعم..