ظروف استثنائية.. لا تشبه الحياة

 

د. خديجة الشحية

في أول شهور أيامنا الاحترازية في زمن الكورونا، كنت قد بدأت بكتابة أوراقه اليومية وما صاحبها، نحن من كنَّا بين حرية وإغلاق، بين احترازات صحية وإهمال شخصي، بين تجمعات وعزلة.. تلك السنوات التي مرَّت كالشبح علينا جميعا.. انتشلت من بيننا أحبابا وأصحابا وأهلا، ورعب يومي ظل مرافقا لكمامة ومعقم، ووسواس من كل من أصدر عطسة أو كحة.

توسدنا الشك في من حولنا وبكل لحظة من لحظات عمرنا الذي انقضى وكأنه كان يخبئنا داخل زنزانة محكمة الإغلاق، نحن الذين غامرنا بأعمالنا..وأنشطتنا ويومياتنا المفعمة بالحيوية والإنتاجية وأشياء كثيرة استحقت منَّا التهميش في وقت كنَّا بحاجة لإنعاشها ومدها بالطاقة والانتشار، خسارة الأعمال تعوض، ولكن كيف بخسارة الأرواح التي غادرتنا دون رجعة، قدَّر الله وماشاء فعل، هي حكمة إلهية لا ندري من المقصود بذلك الوباء ليعاقب، ويدفع الثمن من يدفعه، سواء بإهمال أو بأخطاء علاجية وغيرها، مرحلة صعبة دفع ضريبتها الكثيرون، وتوجع منها آخرون في ظل الاختناق الاحترازي الذي طوق الجميع. صغارا وكبارا.

حتى تقرر. رفع كل الاحترازات، "ونحمد الله على رفع البلاء" وتعود الحياة كما كانت قبل الكورونا دون قيود، دون خوف، هل حقا عدنا، أم أنه حلم، كنَّا بقرارة أنفسنا يومها غير متأكدين من هذه العودة يوما، وكيف كنَّا سنتيقن من عودتها ونحن بين كل تلك الحلقات المستديرة بنا نتعافى، ونرجع مجددا لتزايد الحالات وكثرة الوفيات، أولئك الموتى الذين لم يحظوا بكفن ولا عطر ولا صلاة، أولئك الذين نحبهم وغادرونا دون وداع يليق بهم.. رحمة الله تغشاهم وتبرد على قبورهم، لست متأكدة من أنني سوف أكمل تلك الأوراق الخاصة بكورونا بعد، لازلت متخوفة من عودة ذلك الشبح المرعب الذي جمَّد الحياة لفترة من الزمن، وجعل أمي متمردة على الخوف والحذر، نمنعها من الخروج فتعود مجددًا تلف هنا وهناك بين الأهل والجارات مرددة "الحافظ الله"

أمي التي أذابت خوفنا بتلك الكلمات وكأنها تعلمنا مُجددا بأن لكل روح أجل وكتاب، وتمزق بكلماتها رعب العالم وتحذيراته على من هم مثلها ممن يعانون من الأمراض المزمنة، غير آبهة بما يحدث، ورائحة الموت من حولها، هكذا هنَّ الأمهات قويات مؤمنات بالمصير، وبأن لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل، تحفظهم هي وقايتهم وحصنهم الحصين من كل ضر، ألزمناها بالكمامة وقتها وهي تعاند ببرقعها، تقول إنه عن كمامة، فتمنع من الدخول إلى بعض الأماكن إن لم ترتدِ الكمامة، تتحرطم قليلاً، ثم تخرجها من حقيبتها التي قد أهديتها أياها، وتتمرد على حملها أحياناً كثيرة، فهي تفضل أن تضع كل متعلقاتها من مفتاح وهاتف ومحفظة في جيب، "كندورتها" ثوبها، تقول إنها كيف ستمسك بطرف عباءتها إن كانت ستحمل تلك الحقيبة، هي متمردة "حبيبة قلبي".. المرأة المسؤولة عن أسرة وأبناء من الصعب أن تملي عليها قوانينك خاصة وإن كانت هي من تدير دفة البيت من الألف إلى الياء، لم ترق لها صيغة الأمر وأنه لصحتك وأنه لازم وضروري ويستحسن، كل تلك الديباجة لاتروق لذائقتها وتتقبلها بمزاجها فقط، لقد أبتلينا نحن كذلك بتلك الكمامة في عملنا، حتى أنني قد نسيت لبسها يوماً وأنا في طريقي لبوابة الدخول للوزارة، وصادف يومها رجل أمن صارم، أمرني بلبسها قبل الدخول، وسيارتي تبعد مسافة طويلة عن البوابة، حاولت إقناعه بأن لدي كمامات أخرى بمكتبي، لم يصدقني، مما أضطرني للذهاب مجددا؛ حيث أوقفت سيارتي، وأنا بغيظي منه، ودخلت البوابة دون أن ألقي عليه السلام، لا أعلم عقابا له أم لبوابة الدخول!

وأنا أيضاً مثل أمي كنت قد سلمت أمري للحافظ لعباده، ولست من الملتزمين بلبس الكمامة طوال ساعات العمل، ألبسها حينا، وأتركها حينا آخر، وكثيرا ما كنَّا نعود أدراجنا من عدة مواقع بسبب نسيان ارتداء الكمامة"لم نكن قد أعتدنا عليها بعد"، وكثير هو الاستنزاف المادي لفحوصات "البي سي آر" عند ذهابنا لمسندم، كنا نمتعض أحيانًا وأخرى نسأل الله الصبرعلى تلك الضغوطات التي مررنا بها جميعا والأمزجة التي نتصادم معها في مواقع عدة، فلم يكن العديد لديهم تلك الروح التي تتحلى بالصبر على الدوام، كثيرة هي المواقف، والأحداث التي يتوجب عليَّ كتابتها بتلك الأوراق التي ستكشف ما خبأته أيام كوفيد-19 لا أعادها الله من أيام.

حياة الكورونا كانت درسًا وفرصة ومنحة للبعض خاصة أولئك الذين لا يستقرون في منازلهم، والخروج عادة يومية لهم كالخروج للعمل تمامًا، ولكنها لم تكن لي كذلك، فلست ممن يستحبون الخروج اليومي، وكانت فرصة لي لإنجاز الكثير من الأمور والفوز بمساحات كبيرة من الهدوء والاسترخاء عوضًا عن التردد هنا وهناك لإنهاء بعض الأعمال، الحمدلله على كل ما أتى به، هي ابتلاءات ويؤجر من يصبر عليها ولا يرمي نفسه في التهلكة من بينها ظروف استثنائية لا تشبه الحياة.