ناصر أبوعون
في هذا الديوان تنبعث رائحة الموت فتزكم الأنوف، ويتبدى الخراب في كل فاصلة شعرية، وتأوهات الاحتضار تصّاعد إلى السماء متضرعة، وتسدل الغيوم غلالتها السوداء على الأزقة والحارات، وتنعق الكلمات على التلال والجبال، ويعزف الحطابون بفؤسهم على أوتار الحزن سيمفونية الرحيل.
يمثل هذا الديوان في طبعته الأولى إرهاصا مبكرا لما حلّ بالعالم لاحقًا من خراب روحي يقودنا إلى خرائب تترى، وانتكاسات حبلى بالجنون، وصرخات متوالية في جب اللاعودة؛ تحت غطاء دخاني كثيف حيث يرحل »الجمال إلى الموت«، و»الورد إلى الرماد«، و»أضاءت الأرض ضياءها الأخير«.
أما عن صور الموت فهي تتناسل من مطلع الديوان إلى أفول سطره الأخير، في صور مرئية متسارعة تنشطر وتتشظى من مادتها الخام الأولى والمتشكلة في رحم »الغيوم«، وأصداء: »نداء طفلة بعيد«؛ فتقع عيوننا عليه في هيئة ذئب جائع يقعي فيتردد صداه بين الأودية النائمة في أحضان الجبال، ويصرخ بصوت مبحوح آهاتٍ مكتومةً في دهاليز الروح لامرأة ثكلى تحت ظلال (أشجار السُّمر)، وعلى منابع المياه، وبين الحقول.
ولكن هذا الموت يأتي في صورة أكثر إيلاما، وعذابا سرمديا لا ينتهي، وسعيرا في سواء الجحيم لا تنطفيْ جذوته؛ حيث (الانتظار) وهو المعادل الموضوعي للموت وقد حاصر (الآدميّ) وجرده من (أنسنته)، وحوله إلى كائن مسخ »ينتظر دوما أن تبعثه الغيوم« و»العاشق وهو يحلم ببناء بت من الغيم« و»الميت وهو يحلم بأن يروي الغيمُ عظامه في التراب«.
تتبدى تشكّلات ومفردات الموت في هذا الديوان على صورة قوس قزح حزين، وبألوان باهتة متداخلة في خطوطها وتنطوي على دلالات شتى تنبيء تارة بالخراب "الطفلة/ وهي تخاطب الطير:أن خذني خارج الموت/وهو يلتقطنا واحدا واحدا كثمار البرقوق"، وتارة أخرى بالانزواء »السعادة/هي ما يتواطؤ معك ضد الروح/فاهرب عنها إلى جبانة الأطفال«، وحينا يتبدى الموت في شكل جحيم من الصمت والسكون »لم يعد لدينا بيت نأوي إليه/ بعد أن أوصد آباؤنا أبواب قبورهم/ ورمتنا أمهاتنا للريح«، وأحيانا كثيرة يجزّ الموت كل أشجار الكلام فيرفع الشاعر راية الاستسلام» كل فجر/تنفض الشجرة ثدييها/لتسقط من جسدها العصافير/موتى«، ونادرا ما يشهر الشاعر سماء عيسى عصا التمرد في وجوهنا »ابتسمي/ وأنت تذرفين دمعك الأخير على الأرض/ بالأسى الذي تركته وفاة شقيقة صغيرة قبل ثلاثين عاما/بأسى الساقيات الحاضنات جرار الماء من النبع/بأسى الغافة وهي تحن علينا بظلالها في يوم قيظ/ بأسى الشياه الصغيرة وهي تنظر إلى السمر يجف في ألم كحرقة الأكباد/ بالأسى كآخر وطن للنجم وآخر خيمة لليل«، ولكن الشاعر في النهاية يرفع سيف الحقيقة، في وجه القهر والموت يرغب في القصاص من كائن لامرئي مائع وقبض ريح »عندما المياه جرفته/إلى زهرة في البراري/ عندما امرأة تلتقيه تبكي/عندما الموت وهو يتسع كمدى مطلق/يلتقيه كنجم بعيد مضيء«.
في هذا الديوان يزواج الشاعر بين مفردات ثرّة وصور طريفة مبتكرة ومركبة مكتنزة برائحة الموت، ورزنامة من الألوان؛ وإن بدت هذه الصور اعتيادية خاصةً إذا ما تمّ تجريدها من دلالاتها، والولوج إلى المُبَاشَرة التي تناقض في ظاهريتها ماهيّة الشعر ككائن خرافيّ ينشر جُنحه في سماوات المخيلة الإنسانية ومن بين هذه الصور نقرأ: »كان الماء/ونحن نغسل به/جسد الميت/يسيل/كرماد غيم راحل/عدا غموض الروح/وغموضك/أيتها العمياء في الحب/وفي الهجير«.
وفي النهاية يختتم الشاعر سماء عيسى مدونته بنصٍّ مشهديٍّ مُرعب، وهو بمثابة ستارة النهاية في مسرحية من العدم المطلق، بعد أن توالت مشاهد شعرية متداخلة من العبث على مدار صفحات الديوان وهي صورة واقعية ومتوقعة ومجتزأة من مخيلة الشاعر وإن كان التراث الدينيّ غذّاها بتصورات قَبْلية مترسخة منذ الطفولة قيعان الذاكرة؛ إنها تجسيد ليوم القيامة يختتم بها الشاعر سِفْر الخروج من متلازمة الأمل إلى الأرض اليباب »أذى/كان العالم مليئا بالسقم، مليئا بالدم، مليئا بالغبار/بالكائنات وهي تسير من عدم إلى عدم/كأنها الليل لا ينفض ديامسه/إلا على نهار ميّت/البلاد وقد تركنا لها كل هذا الأذى/تركناها تحترق في الشمس/تحت سماء من العدم/خلقنا لها الأذى/كشمعة في الفجر/ لا تدفنها ريح/ ولا يضمها ظلام,,, «