ناصر أبو عون
تداعت الأحداث وتخلخلت القناعات، واهتزت الثوابت، وسقطت الكثير من النظريات الاقتصادية والسياسية التي تمّ الترويج لها عبر العديد من المنابر الإعلامية العالمية والإقليمية، وما تحمله من أجندات أيديولوجية قد تختلف معها التوجهات والهويات الثقافية والرؤى الاقتصادية، والبرامج السياسية في قُطْرٍ ما، وقد تتوافق معها في أقطارٍ آخرى، وبقيت حقيقة واحدة ذات وجه واحد؛ ألا وهي أنّ الاقتصاد هو الدِّفة التي تقود منظومة التقدم والتنمية المستدامة، وأنّ السياسي والاقتصادي صنوان لا يختلفان؛ وإن بدا السياسيّ في طليعة المواجهة والقيادة إلا أنه يخضع في حركته لدوافع اقتصادية بحتة.
لذا نرى القادة الاقتصاديين عاكفين على مدار الساعة في كواليس المنظمات الاقتصادية الكبرى، ومناقشات في دهاليز مجالس إدارات اللوبيات الدولية، وباحثين في مراكز الدراسات العلمية يدرسون تمظهرات الوضع الاقتصادي في كل لحظة، انتهاءً بمتابعة حثيثة من المليشيات العالمية والعصابات العابرة للقارات، بغية التخطيط للآنيّ والمستقبليّ لحركة الاستثمارات، وإدارة تنقلات رؤوس الأموال حول العالم؛ فضلا عن دور "البعض" في نزع صمّام الأمان وإشعال فتيل الصراعات العسكرية، وإذكاء نيران الطائفية، وإثارة النعرات العصبية والمذهبية، بل وتمويل الحروب في بعض الأحايين من فوق طاولات ظاهرها السلام ومن تحتها شرٌ مستطار للاستفادة القصوى من تداعيات الأحداث لإنعاش اقتصاد هنا، والضغط لتحقيق ركود هناك وهكذا حركة الحياة.
ومن ثمّ فإنّ تحريك عجلة التنمية المحلية تستوجب التموضع حول دولاب حركة الاستثمار، وتعظيم النظرة البراجماتية في إدارة العلاقات السياسية، ومعرفة أين تقف أقدامنا، مع الاعتماد على رزنامة من الدراسات المستقبلية وخطط بعيدة المدى تتيح الانتقال بين مربعات العلاقات الدولية، ونبذ السكونية والثبات داخل الأحلاف والتكتلات والعلاقات الثنائية للخروج من حالة التبعية العمياء إلى آفاق المصالح المتبادلة والقافزة فوق الأسلاك الشائكة للحدود والانطلاق إلى أبعد نقطة جغرافية، طالما هناك استثمارات متعاظمة في سائر القطاعات الاقتصادية وفي مقدمتها التعاون العلمي والتكنولوجي؛ حتى تتحقق استدامة تنموية فاعلة، لا مفعول بها، تنكمش معها معدلات الباحثين عن عمل، وتتعاظم في إطارها رؤوس الأموال، وتترسخ قواعد العلم وتطبيقاته وتتنوع مصادر الدخل القومي مصحوبة بوقف الهدر الجائر في الموارد الطبيعية.
ومما تقدّم يقتضي القول إنّ أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا قد أسقطت أقنعة الكذب الملوّنة عن وجوه التعاون الاقتصادي بين دول الجنوب الفقير المتخلّف عن الركب الحضاري في سياساته، والغني بموارده وخزائنه التي لا تنضب، ودول الشمال الغني المتقدّم على نفسه في سباق التنافس العلمي والاقتصادي. كما كشفت الحرب عورة الشراكات السياسية المؤدلجة القائمة على سلب الآخر مقدراته وموارده في بواطنها، وإن أبدت في ظاهرها الوجه الجميل تحت لافتة التعاون في إطار حوار الثقافات والحضارات.
وهذا الوضع يستوجب إعادة تشكيل الرؤى التنموية في بلدان الجنوب، ومراجعة السياسات الاقتصادية، وبناء شراكات والدخول في تكتلات قائمة على العلاقات النديّة والتعاون الاقتصادي مع المحيط الإقليميّ وسائر كيانات المجتمع الدولي، وفق النظرية البرجماتية التي تحقق لطرَفَي الشراكة الفائدة الأعظم تحت لافتة "الصداقة مع الجميع"، دونما استنزاف أحد الأطراف لموارد ومقدرات شركائه، مع الاحتفاظ بالهُوية الوطنية وملامح الشخصية الحضارية الصُلبة التي تستعصي على الرخاوة والذوبان في شخصية الآخر ورفضها بكبرياء وطني لا ينكسر، تحميه قوة عسكرية متطورة، وقاعدة اقتصادية متينة، تحول بينه وبين أن يكون مطيّة لسياسات ومصالح أطراف التعاون الدولي والإقليمي الآتية إليه من كل حدب وصوب؛ بما تتحقق معه لدول الجنوب السيادة المطلقة على قرارتها وحماية كيانها وتراثها والانفلات من الدوران في فلك دول الشمال المستقوي بنهضته الحداثوية ورغبته الخفية في إخضاعها لتبعيته وأجندته السياسية.