المكرم/ د. إسماعيل بن صالح الأغبري
الزيارات بين عُمان وإيران طبيعية ليست في إطار تنافس حاد مع الدول، ولا تأتي بناءً على توقعات بعودة الأطراف للاتفاق النووي، ولا بناءً على محاولة إيجاد موطئ قدم؛ لأنَّ عُمان وإيران لم تتأثر علاقاتهما معًا في جميع المراحل وليست مبنية على الانتهازية أو قرب إيران أو بعدها من أمريكا والغرب.
لم تعرف العلاقات العُمانية الإيرانية اضطرابًا ولم تشهد شدًا وجذبًا بناءً على نوع النظام الحاكم، ذلك أن سلطنة عُمان تقيم علاقات طبيعية مع الدول ولا تمني نفسها بعلاقات فوق الطبيعية فالواقعية في دبلوماسيتها حتمت عليها ذلك. ومن يبغي علاقات فوق الطبيعية يرغب في إذابة الدول في منهجه ويحلم بتبعية سياسة غيره لسياسته، ويتوقع أن تكون الدول الأخرى في دبلوماسيتها نسخة طبق الأصل من دبلوماسيته، لذا يحدث التوتر بين الدول وتتقلب العلاقات بينها وتصل إلى ملاسنات. وتمتاز علاقات سلطنة عُمان مع غيرها بالثبات لأنها تعلم أن لكل دولة سياستها ونوع نظام حكم خاص بها، فتقبل إقامة العلاقات الطبيعية مع احتفاظ كل دولة بخصوصيتها وهذا سر ديمومة علاقاتها واستمرارية تعاونها.
وإيران لم يبد منها تجاه عُمان ما يُشين أو يُعكر صفو العلاقات ولم تتدخل في الشأن العُماني، وهذا عُمق استمرارية العلاقات بين البلدين، ومن المؤكد أنَّ سلطنة عُمان ملتزمة بالمبدأ الأممي وهو عدم التدخل في شؤون الدول. سلطنة عُمان تقيم العلاقات مع الدول وليس مع نوع النظام الحاكم، وشتان بين الأمرين. نظام الحكم في عُمان سلطاني يجب احترامه ونظام الحكم في إيران جمهوري يجب احترامه، وعلى هذا سار البلدان، فارتقت علاقاتهما دون أن تصاب بتذبذب أو اضطراب ولم تشهد تقلبات.
علاقات عُمان وإيران طبيعية منذ أيام الشاه وهو المحسوب على الرأسمالية المقرب من الغرب؛ بل تم التعاون بين إيران أيام الشاه وبين سلطنة عُمان، خاصة في مواجهة الزحف الماركسي اللينيني الشيوعي في أوائل ومنتصف السبعينات من القرن الماضي، والعُمانيون يتذكرون ذلك ولا ينسون دور إيران الإيجابي. والإيرانيون لا ينسون دور عُمان وبقاء علاقاتها طيبة في جميع المراحل، بالرغم من تقلبات أنواع أنظمة الحكم في إيران؛ بل كانت عُمان الوحيدة في المنطقة ذات علاقات حسنة حين ضاق الخناق على الجمهورية الإسلامية، ودول الغرب وأمريكا يتفهمون هذه العلاقة وأنها دبلوماسية عُمانية خالصة، وتفيدهم أيضًا من ناحية وجود طرف نزيه، إن ضاقت الأمور أو اتسع الخرق على الراقع.
في عام 1979 أعلن الإيرانيون عن قيام نظام حكم آخر مناقض لنظام حكم الشاه، وهو قيام جمهورية إسلامية بقيادة الزعيم الإيراني آية الله الخميني، فاحتفظت عُمان بعلاقات طيبة طبيعية مع إيران، كأن أمرًا لم يكن، ذلك أنَّ الدبلوماسية العُمانية لا تقيم علاقاتها بناءً على نوع النظام الحاكم؛ فأنظمة الحكم تتبدل لكن الدول باقية.
سلطنة عُمان تقيم العلاقات بغض النظر عن نوع النظام الحاكم؛ علماني أو ليبرالي أو ماركسي أو إسلامي أو إسلامي محافظ أو إسلامي معتدل، فهي ليست وصيّة على الدول ولا وكيلة عنها، ولا تتدخل في شؤونها، كما لا تقبل أحدًا أن يتدخل في شأنها. وهذه المُعادلة قائمة بين عُمان وإيران لذا لا تتعكر العلاقات.
الجمهورية الإسلامية في إيران تحترم دبلوماسية سلطنة عُمان ولم تحاول إملاء ولا فرض إرادة ولا محو خصوصية عُمانية لذا فالعلاقات حسنة بين البلدين. وسلطنة عُمان والجمهورية الإسلامية دولتان قديمتان وكلاهما شهد ميلاد حضارات، وكلاهما خصه النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب موجه إلى رؤوس الدولتين وهذا يدل على أصالة البلدين وعمق وجودهما. وكان بينهما كر وفر أيام مزون وفارس وأيام الغبيراء وفارس، ثم صارت علاقات وكل لم يبغ على غيره لذا صارت العلاقات حسنة؛ إذ ليس من المعقول بقاء العداوات مع ارتفاع أسبابها والدول بما فيها عُمان أقامت علاقات دبلوماسية مع البرتغال وهم كانوا مستعمرين عُمان ومخربين 150 عامًا، ونازلهم العُمانيون في سوح الوغى، ولكنهم الآن لا يُمارسون عدوانا فكيف نعاديهم أو نتجنب إقامة علاقات معهم؟ وهذا شأن جميع الدول؛ فمصر علاقاتها مع بريطانيا وفرنسا حسنة رغم احتلال الإنجليز والفرنسيين لها سابقًا، ورغم العدوان الثلاثي عليها، وليبيا أقامت علاقات حسنة مع إيطاليا رغم الاحتلال السابق لإيطاليا لها، والجزائر أقامت علاقات رغم استعمار فرنسا السابق لها، كما أقامت المغرب علاقات مع إسبانيا بالرغم من الاعتداء السابق الإسباني على السيادة المغربية، وكذلك سوريا أقامت روابطها مع فرنسا المستعمرة السابقة لها؛ فالخلاصة ما دام كلٌ كف يده عن التدخل في شأن الآخر فلا مانع من نسج العلاقات فلا عداوات دائمة مع زوال أسباب التوتر.
الإيرانيون لا يعيشون في بلاد الواق واق، وإنما هم مسلمون ولهم حق الإسلام والعُمانيون أسلموا أيضًا طوعًا لا كرهًا، رغبة لا رهبة فجامعة البلدين الإسلام ومنظمة التعاون الإسلامي تجمعهما أيضًا.
عُمان وإيران متجاوران وهذا يقتضي تنسيقًا دائمًا وتفاهمًا خاصة في مضيق هرمز والحدود البحرية فلو كانت العلاقات على غير ما يرام لتصيدت دول في الماء العكر ولصنعت من الحبة قبة، وأدى ذلك إلى صعوبة حل ما قد يقع من زلل غير مقصود بين البلدين، ولما أمكن بقاء مضيق هرمز آمنا مطمئنًا هادئًا تمخر عبابه ناقلات النفط العالمية تنقله من دول الخليج نحو أمريكا والغرب وغيرهما وعُمان ساهرة العين وحاميته وغيره مطمئن على بلوغ نفطه الآفاق.
عُمان ظلت دائماً ثابتة العلاقات مع إيران رغم حرب الخليج الأولى والثانية ورغم التوترات بين أمريكا وإيران؛ بل سخّرت سلطنة عُمان حسن العلاقة مع البلدين من أجل ضمان تدفق نفط الخليج عبر مضيق هرمز وبذلك أسدت سلطنة عُمان لدول الخليج معروفاً بأن ضمنت تدفق نفطها للعالم.
واستثمرت عُمان حسن علاقاتها مع إيران وأمريكا فكانت لها اليد البيضاء في ميلاد الاتفاق النووي الموقع عام 2015 بين دول (5 + 1)، وكان ذلك له مردود إيجابي على دول الخليج والسلم العالمي كافة.
كانت عُمان بالنسبة لإيران المتنفس والرئة لها إذ ظلت الوحيدة غير المتقلبة في علاقاتها والحبل المتين من أجل مد الجسور بين إيران وغيرها والسبيل النزيه إذا ما تعكر صفو العلاقات بين إيران ودول غربية وأمريكا. الإيرانيون على علم تام بأنَّ أضمن العلاقات ما كان مع عُمان لثباتها واستمراريتها وواقعيتها وقبولها الآخر مهما اختلف معها في دبلوماسية أو نظام حكم.
إيران دولة ذات جغرافيا كبيرة جدا وذات كثافة سكانية كبيرة تقارب المئة مليون نسمة وذات موارد وسلة غذائية متنوعة وأنهار من المياه متدفقة، إضافة إلى تقدمها العلمي والطبي، وذلك يعني إمكانية استفادة سلطنة عُمان من خبرات إيران العلمية والطبية ومن سلتها الغذائية المتنوعة فهما جاران متلاصقان. ويمكن أن يكون البحر سبيل زيادة الروابط بتعميق التبادل التجاري بدل الاستيراد العابر للقارات.
وإذا كان الإيرانيون دهاة السياسة وساسة المفاوضات حتى يكل خصمهم وهم لا يكلون ولا يملون وإذا كان الإيرانيون ينسجون السياسة أدق من نسجهم السجاد الإيراني فإنَّ العُمانيين تمكنوا بفضل سياستهم وحنكتهم الدبلوماسية من الموازنة في العلاقات والبعد عن التجاذبات، كما تمكنوا في علاقاتهم من الاحتفاظ بها ولو بين قوى متناقضة أو حتى متصادمة وذلك دهاء سياسي ونضج دبلوماسي عُماني.
ويبقى على البلدين استثمار تلك العلاقات اقتصاديا من خلال رفع وتيرة التعاون في ذلك الشأن وعلى العُمانيين جني الثمار جنيًا عمليًا لا مجرد الإشادة بهم إقليميًا ودوليًا فالعلاقات تنشأ من أجل مصالح لا من أجل الركون فقط لإشادات من هنا وهناك وهذا مسلك يجب أن تسير عليه عُمان مع كافة الدول فليس في السياسة العمل لله في لله دون مردود ينعكس على الدولة.
والتعاون السياسي والدبلوماسي لا بُد من أن يتعزز عن طريق التنسيق في المحافل الإقليمية والدولية، أما مجرد قيام أحسن العلاقات دون تحقق المردود المنتظر فإن ذلك لا يجدي.
مراعاة الدول الأخرى في علاقاتنا مع إيران قد يُعيق استثمارنا لها علمًا بأنَّ تلك الدول لا تراعي عُمان في نسج علاقاتها مع القريب والبعيد بل صارت دول تمد حبلا وثيقًا غليظًا مع إيران وتحاول بشتى الوسائل إحكام الحبل الغليظ.
سلطنة عُمان والجمهورية الإسلامية علاقات طبيعية، وليس ردات فعل وهذه الزيارة ليست وليدة تقلبات إقليمية ودولية ولا توقعات بحوادث سياسية وأمنية ولم تفرزها ظروف آنية، لذا هي العلاقات الطبيعية وينبغي استثمارها سياسيًا واقتصاديًا.
وختامًا.. أكرر أن اعترف العالم بدبلوماسية دولة وحسن علاقاتها واطمأن إلى عدم تقلب سياستها ولا مزاج ساستها ونالت من السمعة الإقليمية والدولية حتى صارت دول العالم ترتضيها في التسهيلات والوساطات وتتحاكم إلى رأيها في كثير من القضايا ومع ذلك لم تعد لها تلك المكانة بتمكين اقتصادي واستثمارات بمئات المليارات ولم تحصل على معاملات تفضيلية، فإن هذا يشعرنا أن هذه الدولة تعمل بمبدأ "لله في لله"، وهذا أمر لا ينبغي في سياسة الدول، وإنما مبدأ المصالح المشتركة هو الحاكم والحكم في العلاقات. إن قدمت أمرًا أو جلبت منفعة للأطراف أو خلصتها من مزالق وأنقذت الأطراف من مضايق لا بُد ذلك بثمن ومقابل، وإلا فلن أجني إلا مجرد سمعة طيبة وإجماعًا دوليًا على حسن الدبلوماسية وهذا لا يكفي.