اغتيال الحقيقة!

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

 

كان الخميس الماضي (12 مايو 2022) يومًا حزينًا بكل المقايسس، لكل أحرار العالم، وخاصة الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج؛ إنه يوم الإعدام الميداني للصحفية الفلسطينية شيرين أبوعاقلة برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتحديدًا وحدة "دوفدوفان" المُستعرِبة، في جريمة جديدة تضاف إلى جرائم هذا الكيان الغاصب لأرض فلسطين التاريخية.

هزَّ هذا المُصاب الجلل الضمير الإنساني في مختلف أرجاء المعمورة؛ لكون شيرين أبو عاقلة لا تحمل مدفعًا أو حجرًا لمُقاومة المحتلين الذين اقتحموا "مخيم جنين" للاجئين الفلسطينيين الذين كانت قد شردتهم العصابات الصهيونية من منازلهم منذ عدة عقود؛ بل تحمل ميكرفونًا وكاميرا وكراسة يومية تسجل فيها استهداف الأطفال والنساء في الضفة الغربية، ومعها فريقها التلفزيوني الذي لم ينج أيضًا من الرصاص الغادر؛ إذ أُصيب قبلها مُنتج قناة الجزيرة علي السمودي بجروح في الظهر. لقد أبهرت هذه النجمة الإعلامية- التي ترعرت في أرض الزيتون المبارك- العالم بشجاعتها النادرة ومُواجهتها للمخاطر في أصعب الظروف، فكانت طوال ربع قرن من الزمن تعمل في قناة الجزيرة برباطة جأش منقطعة النظير، في عالم الصحافة التلفزيونية لا سيما الاستقصائية منها، كاشفةً بشكل يومي انتهاكات الجيش الإسرائيلي وقتله المستمر لشعب أعزل لا يملك حق الدفاع عن النفس من هؤلاء المرتزقة الذين أتوا من بقاع الأرض لاحتلال فلسطين والقدس الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.

كانت شيرين أبوعاقلة تعرف أنها ستكون في يوم من الأيام هدفًا لقناصة المُحتل الغاصب، وللأسف تحقق ذلك، فأصبحت هي الخبر الذي يتصدر وسائل الإعلام في مختلف القارات، وذلك بعد سنوات طويلة من النضال في سبيل حرية الكلمة، وكشف جرائم الاحتلال عبر قناة الجزيرة، فكان صوتها الهادئ يصدح بالحق ويعرف العالم بما يدور في فلسطين من قتل وإبادة للأبرياء في الأراضي المحتلة.     

لا شك أن هذا الإعدام الميداني بدم بارد لهذه الإعلامية، لم يكن الأول ولن يكون الأخير مع كل أسف، فقد قتل الصهاينة أكثر من 55 صحفيًا منذ عام 2000 خلال تغطيتهم للمواجهات اليومية للدبابات الإسرائيلية التي تسهدف أطفال الحجارة والنساء الفلسطينيات في الضفة الغربية والقدس الشريف. كما إن عدد شهداء فلسطين منذ النكبة قد تجاوز 100 ألف شهيد.

ولعلنا نتذكر جميعًا جريمة قتل الطفل محمد الدرة؛ وهو في أحضان والده الأعزل؛ قبل أكثر من عقدين من الزمن؛ إذ هزَّت هذه الجريمة البشعة الرأي العام العالمي، فخرجت المظاهرات في مختلف المدن العربية والعالمية، تدين دولة إسرائيل وتطالب بمحاسبة القتلة من جنود الاحتلال.   

لقد زرعت الدول الاستعمارية هذا الكيان المحتل الذي يطبق سياسة الفصل العنصري في الأراضي المحتلة، وتعمل هذه الحكومات الإمبريالية؛ بدون تردد على تزويد إسرائيل بالمال والسلاح والحماية من العقاب في المنابر الدولية والمنظمات الحقوقية، مثل المحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن الدولي وغير ذلك من المحافل الدولية. إن ازدواجية المعايير في النظام الدولي وعدم المساواة بين البشر في هذا العالم يكشف الظلم وعنصرية الدول الغربية في تعاملها مع الشعب الفلسطيني؛ بالمقارنة بأوكرانيا التي تتسابق أوروبا والولايات المتحدة إلى تقديم العون لها في الكشف عن الجرائم التي ارتكبها الروس في الأراضي الأوكرانية التي كانت مسرحا للمعارك والإبادة الجماعية طوال الأسابيع الماضية؛ مثلها مثل ما يحدث في فلسطين من قبل الجيش الإسرائيلي منذ عدة عقود وحتى الآن على مرأى ومسمع العالم، ولكن دول الاستكبار تنظر بعين واحدة فقط متجاهلة معاناة الشعب الفلسطيني الذي ذاق الأمرين عبر العقود.

كتبت شيرين أبو عاقلة على صفحتها على "فيسبوك" كلامًا مُؤثرًا جدًا قبل عام من استشهادها؛ وكأنها تعرف مصيرها؛ إذ قالت في تدوينتها: "في بعض الغياب حضورٌ أكبر"! وبالفعل صدقت في ذلك، فقد نعاها العالم قاطبة من بين هؤلاء رؤساء دول وحكومات، فقد عجَّت منصة تويتر بمئات الآلاف من التغريدات؛ فخلال الساعات الأولى لبث نبأ مقتل هذه الإعلامية الشجاعة، سجل موقع العصفور الأزرق "تويتر" أكثر من 450 ألف تغريدة باللغة الإنجليزية فقط تُدين في مُعظمها الغطرسة الإسرائيلية وعربدة جيشها واستهدافه للإعلاميين.

كما إن مراسم الجنازة كانت فريدة في تاريخ فلسطين، فقد مرَّ الجثمان على المدن الفلسطينة في الضفة الغربية، كما منح الرئيس الفلسطيني، الراحلة الكبيرة وسام "نجمة القدس"، الذي يُعد أعلى وسام فلسطيني، بينما حضر تشيع الجنازة إلى مثواها الأخير في القدس المحتلة عدد غير مسبوق من الفلسطينيين والعرب والعالم، متجاوزًا بذلك جنازات العديد من القادة، ولكن ذلك لم يسلم من ملاحقة الشرطة الإسرائيلية التي تدخلت لمنع رفع الأعلام الفلسطينية، ما أدى إلى نشوب مواجهات وقيام الاحتلال بالاعتداء على المشيعين وضربهم بالهروات، وكاد أن يسقط النعش وبداخله جثمان الإعلامية المناضلة، وهو محمول فوق أعناق الجماهير.

إنَّ من المؤسف والمُفارقات العجيبة أن نجد في هذا العالم من لا يزال يعتقد أن "إسرائيل" دولة ديمقراطية وتحترم حرية الإعلام والتعبير، في الوقت الذي يقوم جيشها بإخراس صوت شيرين إلى الأبد؛ معتقدين بذلك أنهم يستطيعون منع وصول الحقيقة إلى العالم.

من هنا قرر العديد من رجال الأعمال الفلسطينيين في المهجر تأسيس صندوق خاص يحمل اسم "شيرين أبوعاقلة" بهدف إرسال عشرات الطالبات من قطاع غزة والضفة الغربية لدراسة تخصص الإعلام في الجامعة التي درست فيها شيرين، وذلك لتخريج 100 صحفية لرصد حقائق العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قادم الأيام.