عابدين؟! يا جلال الدين

 

عائض الأحمد

 

لم يكن يعلم عنه أقرب المقربين في حيه أو داره المتواضعة عاش "جلال الدين" ينشد الإبداع الشخصي دون أن يتسول نظرة إعجاب أو كلمة إطراء تحثه على إكمال مسيرته رهن حياته لعقله وتخلى عن عواطفه كما يظن مشاهدوه ولكنه كان يحمل قلب طفل يخفيه حينما تحين ساعة لقائه بنفسه، كان حدادا في معظم ساعات يومه وأديبا وشاعرا في دائرته الضيقة يعلمه العامة مهنياً يستخدم يديه ولكن أدبه وشغفه جعل منه جلال الدين بعد أن كان "عابدين" الذي يعيش في أحد "أزقة" المهنيين في قاهرة الحب، قاهرة المستحيل، كما يردد ويحب أن يقال عن مدينته.

لم يثنه فقد والديه، شرف مهنته، وكسب قوت يومه، كان رجلين في رجل واحد، صباحه لا يشبه مساءه، متناقض حد الاختلاف، ومتصالح مع ذاته حد الاتفاق.

الكل يراه بطريقة مختلفة ماعداه، يحدثك وكأنه لا يفقه شيئا ثم يسرد لك قصته وكأنه "المعز لدين الله الفاطمي".

يقول في إحدى ساعات الصفاء غدرت حينما تعلقت بحبالها فطوته حول عنقي، وأنا من سخر الحديد والنحاس بيديه، كما فعلت شعرا وأدبا في بلاط السلاطين، فاض إناء قدرتها فأغرق قدرتي، سحقتني بهالات نورها في لحظة ضعف، صدقتها، أحببت فلنت لها وأطعت، ثم علمت أن الحياة لن تأتي بجديد فذقت مرارة التعلق بحبالها، حتى تقطعت أنفاسي، وغبت عن الحياة فاستعدت سيرتي الأولى، من له قدرة حداد ليس بالضرورة أن يعشق ويحب ويرسم لوحة تبهره، كما كان يراه نقاد الأدب في مجالس "الفاطميين" الفاخرة حين كانت قاهرة المُعز تقدر شعراءها وتجلهم وتتناقل أخبارها أبيات قصائدهم.

الاتصال بالطبيعة لن يجعل منك مختلفاً، كما هو الانفصال عن محيطك المتعثر والمتلعثم حد الشفقة، إن كان يسكنك مريد فربما لغيرك مزيد ومزيد، كانت فيما مضى تخطب ودك، وحين تعثرت وكسرت أسنانها نبتت لها "مخالب" امرأة هصور ترمي بشررها فتحرق الأخضر وترمق محيطها بعيون غدر حباها الله لطف ظاهر خلفه نار موقدة.

سرد الروايات تجديها وتستمتع بها، في غابر الأيام رسول وفي حاضره حمامة سلام تنتقل بين أحضان طبيعتها المتكلفة لتساير عصرا ولدت فيه حينما كانت خرساء تبتسم للمارة، وهي في أشد غضبها.

النار التي ألانت الحديد أحرقت الأدب فصمت الشاعر،  وبقي رفات قلبه تحت قدميها غبارا يتطاير يعلق بأقدام المارة.

تساوت البداية بالنهاية وصفرت أوراقها، منذرة بخريف يعقبه شتاء اعتدت عليه، وكأنَّ الحياة تقول لي لن تبرحه مهما فعلت، انتظر معجزة إلهية، فصدق من قال لك بأن الدراويش يعشقون" التصوف" ولو كان أذى لهم.

ختامًا.. لا تأمن غدر الزمان، وتلقى  بها على الأيام.

******

ومضة:

أكتبها في حروفك وعش معها كأنك تراها، وأكتفِ بذلك لتعيش يقين الفراق على أمل لقاء.

يقول الأحمد:

الحكمة والعبرة ليستا حكرًا على أفواه المجانين، فكم من عاشق شرب المر وسقاه!