د. محمد بن عوض المشيخي **
احتفل العالم الأسبوع الماضي باليوم العالمي لحُرية الصحافة، الذي يُوافق 3 مايو من كل عام، وتهدف الأمم المتحدة ممثلة في منظمة "اليونسكو" من هذه الاحتفالية إلى تذكير الحكومات في الشرق والغرب بأهمية الوفاء بالتزاماتها تجاه حرية الصحافة، وقبل ذلك كله تذكير الضمير الإنساني بحرية التعبير وعدم مصادرة الفكر من أي كائنٍ كان على ظهر هذا الكوكب، انطلاقًا من المبدأ الذي يقول "لا قيمة للحياة بدون حرية مسؤولة" تنتهي بأصحابها عندما تبدأ حرية الآخرين من الشركاء في هذا العالم المترامي الأطراف، الذي تحول إلى غرفة صغيرة جدًا بفضل الإعلام الرقمي الذي ترعرع وتطور بمرور الأيام عبر شبكة الإنترنت العالمية التي ساعدت في ربط الجماهير عبر هذه المنصات الرقمية التي تعمل على كشف تجاوزات أصحاب السلطة والنفوذ في كل زاوية من زوايا الكرة الأرضية.
كل ذلك من خلال حرية الصحافة التي تحرص على كشف المستور من الفساد والجرائم السياسية حول العالم، على الرغم ما يتكبده الصحفيون من ثمن باهظ كالقتل والسجن والتعذيب. فقد كشفت تقارير المنظمات الدولية للعام الماضي 2021 عن وجود 488 صحفيًا في السجون في مختلف دول العالم، بينما تم قتل عشرات الصحفيين خلال تغطيتهم للحروب والمظاهرات في مُختلف القارات.
وفي كل عام تترقب الأوساط الإعلامية والسياسية في السلطنة والعالم قاطبة تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود" الذي يكشف النقاب عن التصنيف السنوي حول حرية الصحافة، من خلال تقييم الدول وترتيبها في قوائم حسب الدرجات التي تحققها من واقع الممارسات والقيود وسقف الحرية المتاحة للإعلاميين في فضاءت حرية التعبير. وتستند المنظمة- التي تتخذ من باريس مقرًا لها- على 5 معايير أساسية في تصنيفها؛ أهمها: الإطار القانوني لعمل الإعلاميين، والعلاقة بين الحكومة والإعلام، والأمان المتاح للصحفيين في عملهم في إطار دولة المؤسسات والقانون. وتعتمد "مراسلون بلا حدود" في تصنيفها على استبيانات ودراسات مباشرة يتولى تدوينها خبراء من الصحفيين والأكاديميين في كل دولة من دول العالم على حدة.
وقد شكّل التقرير الجديد الذي صدر في اليوم العالمي لحرية الصحافة، لنا نحن العمانيين صدمة غير مسبوقة؛ بل وهناك من يشبّه ذلك بالصاعقة؛ خاصة رواد وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى وجه الخصوص مستخدمي منصة "تويتر"، الذين لهم حضور قوي على الساحة الإعلامية في البلاد؛ وذلك لتراجع السلطنة من ترتيبها العام الماضي 2021 الذي كان 133 إلى 163 في العام الجاري، لتقع بذلك ضمن آخر 20 دولة من بين 180 دولة على مستوى العالم، وذلك لأول مرة في تاريخ السلطنة، التي يجب أن تكون في المقدمة وليس في هذا الموقع، لو أحسنّا التصرف، وعملنا بتوجيهات القيادة الحكيمة في هذا البلد العزيز الذي نتمنى له أن يكون في مصاف دول العالم في الشفافية والحوكمة ومحاربة الفساد وهذه المعايير حاضرة في رؤية "عمان 2040" التي رسمها جلالة السلطان- حفظه الله- عند ترؤسه للجنة المسؤولة عن وضع هذه الرؤية الطموحة، التي نتطلع إلى تنفيذ وتطبيق محاورها في قادم الوقت بعون الله.
وبمجرد تدوال تقرير "مراسلون بلا حدود" وانتشاره عبر وسائل الإعلام الدولية ومنصات ووسائل التواصل الاجتماعي، تواصلت معي إحدى القامات الإعلامية الكبيرة في السلطنة والذي هو على رأس الهرم لإحدى المؤسسات الإعلامية الرائدة ومن الغيورين على وطنه، وطرح السؤال الذي كان في الأساس على كل لسان "ما تفسيرك دكتور لهذا التراجع؟!"؛ فكان ردي السريع بدون تفكير، بأن الإجابة على هذا السؤال سوف تكون في مقالي المُقبل بإذن الله؛ لكوني طوال السنوات الماضية أحرص على كتابة مقال عن هذه المناسبة العالمية المعروفة بـ"يوم حرية الصحافة".
التحديات والأسباب التي تواجه حرية الصحافة متعددة ومن الصعب تدوينها في مقال واحد، وعلى الرغم من ذلك أستطيع القول إن عدم استجابة الجهات التشريعية والتنفيذية في البلد بإصدار قانون جديد للإعلام والنشر الإلكتروني يُعد واحدًا من أهم الأسباب في تراجع السلطنة في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، كما إن الوقف المؤقت الذي تعرض له البرنامج الجماهيري الشهير "كل الأسئلة" الذي يبث عبر إذاعة "هلا إف.إم" في شهر ديسمبر الماضي، وكذلك منع الإعلامية خلود العلوي من تقديم البرامج التي تعدها، سبب آخر من الأسباب الكثيرة التي أوصلتنا إلى هذا التصنيف.
ولعلَّ القشة التي قصمت ظهر البعير الرسالة التي وجهتها المديرية العامة للمطبوعات والمصنفات الفنية بوزارة الإعلام إلى الإذاعات الخاصة حول التنسيق المُسبق مع الأمانة العامة لمجلس الشورى قبل استضافة أعضاء المجلس في الشأن المتعلق بأعمال المجلس، مما أثار الرأي العام والعديد من أعضاء المجلس الذين طالبوا بعودة البرنامج ومذيعته. كما إنَّ مكتب مجلس الشورى ممثلاً برئاسة المجلس، كان له رأي آخر حول الموضوع أعلاه؛ إذ أصدر بيانًا حول السياسة الإعلامية للمجلس التي ترفض منع أصحاب السعادة أعضاء المجلس من المشاركة في البرامج الإعلامية.
صحيح أن مذيعة "كل الأسئلة" رجعت لعملها وكذلك عاد البرنامج عبر الأثير، تحت ضغوط الشارع ووقوف أعضاء مجلس الشورى مع حرية التعبير، لكننا خسرنا 30 نقطة في تصنيف "مراسلون بلا حدود"، وهذا بالضبط ما حذّرتُ منه في مقالي في ذلك الوقت الذي حمل عنوان "حرية التعبير في زمن السماوات المفتوحة"؛ إذ قلنا: "الإعلام المحلي يواجه تحديات وجودية في الخروج من رقابة السلطة التنفيذية؛ فكلما رفعنا سقف الرقابة والتشديد على الرأي، نرجع بهذا البلد عقودًا إلى الخلف".
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري