د. مجدي العفيفي
وما زلنا نحدِّق في جماليات المرآة الكونية، ونواصل جلال المشاهدة في فاتحة القرآن الحكيم، ويمدنا العالم الجليل فخر الدين الرازي في موسوعته الرائدة والتي لم تتكرر في مسيرة القراءات المتعددة لعلمائنا الذين هم مصابيح فكرية معلقة في فضاء الفكر الإسلامي، مرتبطة بزمانها ومكانها، وكثير من أطروحاتهم تجاوزت الزمان والمكان وما زالت تشع بشكل أو بآخر.
وفي هذه الومضة، نتوقف مع خطوط الاتصال النورانية بين سورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة؛ إذ ترتكز الدعوة المحمدية على 7 أمور؛ ذكرها الله تعالى في خاتمة سورة البقرة وهي قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)؛ وهذه الأربعة (الله- الملائكة- الكتب- الرسل) متعلقة بمعرفة المبدأ، وهي معرفة الربوبية.
ثم ذكر بعدها ما يتعلق بمعرفة العبودية، وهي مبنية على أمرين: أحدهما المبدأ، والثاني: الكمال؛ فالمبدأ هو قوله تعالى (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)؛ لأن هذا المعنى لا بُد منه لمن يريد الذهاب إلى الله. أما الكمال؛ فهو التوكل على الله والالتجاء إليه وطلب الرحمة منه والمغفرة مصدقًا لقوله: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا). ثم إذا تمت معرفة الربوبية بسبب معرفة هذه الأصول الأربعة، وتمت معرفة العبودية بسبب معرفة هذين الأصلين، لم يبق بعد ذلك إلا الذهاب إلى حضرة الملك الوهّاب، والاستعداد للذهاب إلى المعاد، وهو المراد من قوله (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
ويتكشف من هذا أن المراتب ثلاثة: المبدأ، والوسط، والمعاد.
أما المبدأ، فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمور أربعة: وهي معرفة الله، والملائكة، والكتب، والرسل.
وأما الوسط فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمرين: (سمعنا وأطعنا) نصيب عالم الأجسام، و(غفرانك ربنا) نصيب عالم الأرواح.
أما النهاية فهي تتم بأمر واحد، من خلال قوله تعالى (وإليك المصير).
فابتداء الأمر أربعة، وفي الوسط صار إثنين، وفي النهاية صار واحدًا، ولما ثبتت هذه المراتب السبع في المعرفة، تفرع عنها سبع مراتب في الدعاء والتضرع:
- قوله (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ضد النسيان هو الذكر، كما قال تعالى (يا أيُّها الذين آمنوا اذكُروا الله ذكرًا كثيرًا) وقوله (واذكُر ربَكَ إذا نسيت) وقوله (واذكر اسم ربك)، وهذا الذكر إنما يحصل بقوله (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
- قوله (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) ودفع الإصر، والإصر هو الثقل، يوجب الحمد، وذلك إنما يحصل بقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
- قوله (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) إشارة إلى كمال رحمته، وذلك هو قوله (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
- قوله (وَاعْفُ عَنَّا)؛ لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين، وهو قوله (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
- قوله تعالى (وَاغْفِرْ لَنَا) لأننا في الدنيا عبدناك واستعنّا بك في كل المهمات، وهو قوله (إيَّاك نعبُد وإيَّاك نستعين).
- قوله (وَارْحَمْنَا) لأننا طلبنا الهداية منك في قولنا (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).
- قوله (أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وهو المراد من قوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ).
هذه المراتب السبع في آخر سورة البقرة، ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج؛ فلمّا نزل من المعراج، فاض أثر المصدر على المظهر، فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر، كما نزلت هذه الأنوار في عهد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من المظهر الى المصدر، فلهذا السبب قال (الصلاة معراج المؤمن).
وثمّة محور يتخلق من هذه اللطيفة؛ إذ إنَّ الفاتحة تغلق مداخل الشيطان الثلاثة، ذلكم أن الشيطان يتسلل إلى الإنسان من مداخل ثلاثة هي: الشهوة، والغضب، والهوى؛ فالشهوة آفة، لكن الغضب أعظم منه، والغضب آفة، لكن الهوى أقوى منه، ومن ثم يقول تعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، والمراد من الفحشاء آثار الشهوة، والمراد من المنكر آثار الغضب، فبالشهوة يصير الإنسان ظالمًا لنفسه، وبالغضب يصير ظالمًا لغيره، وبالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال الله تعالى. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه"، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضًا، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه.
فمنشأ الظلم الذي لا يُغفر هو الهوى، ومنشأ الظلم الذي لا يُترك هو الغضب، ومنشأ الظلم الذي عسى الله أن يتركه هو الشهوة.
ثم لها نتائج: فالحرص والبخل نتيجة الشهوة، والعجب والكبر نتيجة الغضب، والكفر والبدعة نتيجة الهوى.
فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع- وهو الحسد- وهو نهاية الأخلاق الذميمة، ولهذا السبب ختم الله مجامع الشرور الإنسانية بالحسد، مصداقًا لقوله (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)، كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة وهو قوله (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس).
وتمتد الخيوط الإلهية من الفاتحة إلى المعوذتين، وهذه هي الومضة القادمة في المرآة الكونية إن شاء الله.