الديمقراطية في زمن الإعلام الاجتماعي

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

لا شك أن الإعلام الاجتماعي اليوم أحدث ثورة حقيقية في العالم وأصبح إعلاماً بديلاً ومنافساً قوياً للإعلام التقليدي، فقد أصبحت المدونات والحسابات الشخصية بمثابة منابر إعلامية حقيقية ومؤثرة على كافة الصُعد وفي مختلف البلاد في العالم.

وبينت دراسات عديدة أنَّ نسبة تفوق 60% من الناس تتابع وسائل التواصل الاجتماعي بشغف وبشكل دائم، وفي المقابل برهنت أغلب الدراسات على أن ما نسبته 60% من المعلومات التي ترد على وسائل التواصل الاجتماعي هي عبارة عن معلومات مُضللة ومغلوطة؛ أي أنها تحمل البُعدين الخطأ المقصود لتضليل الناس أو معلومات خاطئة من الأساس وغير دقيقة، وكلا الحالتين تصيب هدفها وتجد من يُصدقها.

الغريب أنَّ تأثير هذه الوسائل لا يستثني دولة أو شعبًا بعينه على وجه الدقة والتحديد؛ بل تُعاني منه جميع شعوب العالم بلا استثناء، وهذا ما يُدلل على أن هناك شعور عام لدى جميع البشر اليوم بأن هناك ما يُخفى عنهم وأن الحكومات لا تنقل لهم الصدق كاملًا، بل وأن المؤسسات الرسمية لم تعد تلك المؤسسات الموثوقة للتعبير عن الشعوب وتمثيله حق تمثيل. ولنا في الحالة الفرنسية مثال صارخ حين خرجت الجماهير إلى الشارع منذ أكثر من عامين- وما زالت- مطالبة بتحسين ظروفها المعيشية وتضمين الدستور الفرنسي لعدد من المطالب الشعبية في رسالة واضحة بأنَّ الشعب لم يعد يثق بتمثيل برلمانه له ولا بأداء حكومته وخططها ووعودها.

العالم اليوم أصبحت تُسيّره التقنية بكل أشكالها هذه التقنية التي يُخشى أن تُصبح بديلًا عن الإنسان وآمرة له كلما تطورت تقنية الذكاء الاصطناعي، والأمر الأكثر خطورة هو أن تُصبح هذه التقنية بديلًا للمكتسبات البشرية مثل الديمقراطية ومتفرعاتها من برلمانات وإعلام وحقوق مدنية ومعطلة لها.

حين فاز الرئيس الأمريكي الجمهوري دونالد ترامب بالرئاسة وهُزمت منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون شاع بأنَّ الروس تدخلوا في تلك الانتخابات تقنيًا وتمكنوا من تعطيل فوز هيلاري وتيسير وصول ترامب للبيت الأبيض؛ لأن الروس ببساطة لا يمكنهم في هذه المرحلة بالتحديد التعايش مع مرشح ديمقراطي بمواصفات هيلاري كلينتون والتي جربوا التعامل معها طويلًا بينما لا يمانعون من وصول أي كان وإن كان ببدائية وصدامية ترامب.

إشاعة تدخل الروس وتأثيرهم على الانتخابات الأمريكية ودعمهم لترامب على حساب هيلاري لم يكن حديثًا خياليًا من قبل الكثير من النُخب في العالم وعلى رأسهم الأمريكان، ولكن لم يسمع العالم بتوضيح تفصيلي عن كيفية التدخل الروسي ولا ممكناته. وهذا الأمر جعل ترامب يفتعل تصريحات ومواقف تحمل بعض العنف والغلظة تجاه روسيا كتعبير منه عن إنكار التهمة والتي أصبحت تطارده كاللعنة.

كل ما في الأمر- حسب علمي- أن الروس تدخلوا بالفعل في تلك الانتخابات وفق مصالحهم ودون تنسيق مع أي طرف أمريكي؛ حيث قامت شركات تحليل بيانات روسية بشراء قواعد بيانات لحسابات شخصية أمريكية من شركات أمريكية معروفة متخصصة في التقنية، وبعد ذلك مارست التحليل التقني العميق عليهم واستطاعت من خلال تلك التحاليل النفسية والتقنية العميقة التأثير على الناخب الأمريكي وتوجيه تفكيره والتحكم به، وهذا الأمر ليس بجديد فقد أرسل الأمريكان إلى حليفهم رجب طيب أردوغان في تركيا في فترات انتخابية فرقًا فنية متخصصة في تحفيز المرشحين عبر التحكم في تفكيرهم ونظرتهم للأمور من حولهم في زمن أصبح الناس به أسرى حقيقيين للتقنية ووسائل التواصل الاجتماعي.

العالم اليوم رهن إشارة المؤثرين تقنيًا، فمن يصنع التقنية اليوم ويتحكم بها صناعة وتطويرًا يمكنه صناعة الوعي وقيادته والسيطرة عليه، لهذا لم تعد هناك حاجة لاستخدام الوسائل التقليدية في التأثير وخاصة في الانتخابات في ظل أسر الناس عبر إعلام اجتماعي وتصديقهم للكثير مما يُمرر فيه، فقد أصبح من اليسير اليوم تحديد المرغوب به للفوز في أية انتخابات قادمة بفعل تقنية تحليل بيانات الإعلام الاجتماعي وتوجيه الناس من خلالها والسيطرة على خياراتهم.

قبل اللقاء: "من يعرف أكثر، يتألم أكثر" (حكمة يونانية)

وبالشكر تدوم النعم.