محمد بن حمد البادي
تطالعنا وسائل التواصل الاجتماعي، بين يومٍ وآخر، بمواقف وصور وأحداث تعكس جوانب شتّى من واقع حياتنا اليومية، قد تبهج النفس وقد تكدر القلب، ولعلَّ آخرها صورةٌ لطفلةٍ بريئةٍ نامت على طاولة "البياعة" في شارع إحدى الضواحي السكنية، ولكن نقول كما قيل رُبّ ضارةٍ نافعةٍ، فلعل هذه الصورة تحيي قلوب وآذان صانعي قرارات التنمية الاجتماعية من أجل الوقوف على الأحوال المعيشية الصعبة للأسر المعسرة، ولعل الجميع يدرك أن خروج الأطفال للبيع على أرصفة الطرقات له مسببات واضحة لا ينبغي أن نتجاهلها أو ننكرها بداعي الوطنية، أو نغلق أعيننا أو نصم آذاننا عنها بداعي مجاملة وتحسين صورة من بيده قرار تحسين الوضع المعيشي والاجتماعي للأسر المعسرة، بل يجب أن نتصدى لها ونجد لها الحلول المناسبة التي تحفظ لكل مواطن أسباب العيش الكريم.
وبالعودة إلى الصورة المشار إليها في مطلع المقال؛ ولمن قال إن الفتاة التي ظهرت في هذه الصورة ليست عُمانية، أفلا ننظر إليها بعين الرأفة والرحمة، أفلا ننظر إلى وضعها بدوافع إنسانية، وقد جاءت بمعية أسرتها إلى هذه البلدة الطيبة تنشد العيش الكريم لأنها أحسنت الظن بجوارنا، هذه الصورة بالتأكيد لا تعكس الصورة المثالية التي رسمناها لأنفسنا بأننا شعب ودود مضياف كريم.
ولمن قال إنَّ أباها يمتلك مجموعة متنوعة من المطاعم والمحلات والعقارات، ولنُسلِّم بصحة هذا الادعاء، أين أنتم من أولئك الأطفال الذين هم على شاكلتها، أطفال ليسوا وافدين بل عمانيين؛ لا تملك أسرهم قوت يومهم، تراهم يقفون على قارعة الطريق، يدفعهم لذلك الحاجة لتوفير ما يسد الرمق، وما يغنيهم عن ذل السؤال، أو ما يصبون إليه من رسم ابتسامة تعبر عن فرحتهم بالخروج من دائرة الفاقة والعوز، أو ما يحفظون به ماء وجه معيلهم الذي يقبع في منزله عاجزاً عن توفير أبسط احتياجاتهم اليومية.
إن هذا الوضع يكاد أن يصبح ظاهرة تنتشر في معظم الشوارع الرئيسية منها والفرعية، ففي وقت المساء لا يكاد يخلو شارع أو رصيف من الباعة الصغار، وخصوصاً في الولايات ذات الكثافة السكانية المرتفعة، فمنهم من يبيع الماء والعصائر وشاي الكرك، وآخر يبيع الفواكه والخضروات، وآخر يبيع المشاكيك والهريس والثريد والباقل والدنجو والذرة، وآخر يبيع أعلاف خضراء، وآخر يبيع الأسماك، والقائمة تطول.
وكما يُقال "إن العمل ليس عيبًا"، وأن تشجيع الأبناء منذ صغرهم على الاعتماد على النفس إحدى أسس التربية السليمة، والدفع بالأطفال لاكتساب خبرات ومواهب التعامل مع النَّاس ليس منقصة في حقهم، ولا نلقي باللوم على من ينشد العيش الكريم له ولأسرته، ولكن هل هذا الوضع صحي؟ لماذا نحمل هؤلاء الصغار مسؤوليات الكبار؟ أين حقوق الطفل التي نتغنى بها ليل نهار؟ لماذا نجدنا بعد أكثر من خمسين عاماً من التنمية نتراجع خطوات إلى الخلف؟
إن أعداد أبناء الأسر المُعسِرة الذين يضطرون للخروج للبيع على قارعة الطريق ستزداد يوماً بعد يوم، طالما أنَّ أعداد المسرحين من أعمالهم في ازدياد، وفي المقابل نقف عاجزين عن سن تشريعات تحفظ لهم كرامتهم قبل حقوقهم لوقف تسريحهم من أعمالهم.
وستزداد أيضًا عندما يسعى بعض المتشدقين بالوطنية لاستحداث قوانين وتشريعات تضعف مستوى دخل الأسر، مثل قرار الحد الأدنى للأجور المحدد بـ"325 ريالًا"، والذي استغلته بعض شركات القطاع الخاص خير استغلال في تخفيض أجور العاملين بها، وماذا عساه أن يفعل الموظف بهذا الراتب المتدني؟ يذهب نصفه لمحروقات وصيانة السيارة التي يستقلها للعمل، والنصف الآخر يوزعه بين إيجار المنزل وقسط البنك وفواتير الكهرباء والماء والهاتف، ولن تكفي، فما الحل؟
وسوف تزداد الأعداد بسبب عدم وجود حل لأزمة الباحثين عن عمل التي ما زلنا لا نعترف بوجودها وبخطورتها، والتي لا ولن يوجد لها حل في الأفق القريب أو البعيد طالما أن تشريعاتنا وقوانينا تصب بأكملها في مصلحة الشركات الكبرى وتسعى لتوظيف الوافدين على حساب أبناء الأسر العمانية الذين تُركوا ليعيشوا في عسر وضنك.
وسوف تزداد الأعداد كلما توسعنا في فتح أبواب الاستثمار الحر، الذي يسهل للأجنبي منافسة التاجر العماني صاحب المشاريع المتوسطة والصغيرة، ويصبح الوضع أسوأ عندما نقدم كل التسهيلات للتاجر الأجنبي لضمان نجاحه وبقائه على حساب التاجر العماني الذي وجد نفسه فجأةً في دائرة من الصراعات يكون البقاء فيها للأقوى.
وسوف تزداد الأعداد طالما بقيت مخصصات أسر الضمان الاجتماعي والمتقاعدين على حالها دون مُعالجة لمواجهة الغلاء المعيشي الفاحش الذي يزداد من حولنا في كل السلع يوماً بعد يوم، والرواتب على وضعها القديم دون وجود أدنى بادرة لزيادتها.
وأخيرًا، لعناية وزيرة التنمية الاجتماعية الموقرة، هل ما زالت لديكم قناعة بعدم ضرورة الخروج من المكتب والنزول للميدان للوقوف على الوضع الاجتماعي في السلطنة؟ هل فعلًا- وبصدق- تصلكم كل التقارير والدراسات عن هذه الأسر؟ أتمنى أن تتغير سياسة الوزارة في سبيل تطوير التنمية الاجتماعية في السلطنة بلد الخيرات والثروات، فكما قيل "نحن لا تنقصنا الإرادة؛ بل تنقصنا الإدارة الصحيحة".