السلطة الرابعة وهموم المواطن

 

د. محمد بن عوض المشيخي

 

الإعلام الحُر يُمثل ضمير الأمة وسفير السلام ونصير الحق ومعين للفقراء، ونافذة الحاكم العادل على نبض الشارع ومُعاناة الناس الذين خذلهم المتسلطون والانتهازيون من المتنفذين بسلطتهم، دون مراعاة للأمانة أو المسؤولية التي كُلفوا بها.

وتكمُن أهمية الإعلام- وخاصة الصحافة- في الدور الريادي والمعروف في مُراقبة أداء السلطات الثلاثة التي تعمل في إطار دولة المُؤسسات، ومدى تناغم هذه السلطات وتجاوبها مع متطلبات العصر واحتياجات المجتمع؛ وذلك من خلال قيام السلطة التنفيذية المتمثلة في الحكومة بخدمة المواطنين على أكمل وجه حسب الاختصاصات المنصوص عليها في الدستور، والسلطة القضائية المتمثلة في المحاكم التي تحكم بين الناس بالعدل، والسلطة التشريعية التي تمارس دورها الرقابي على المسؤولين، وتسن القوانين والأنظمة لإحقاق الحق بين أفراد المجتمع، كمجلسي الشورى والدولة، اللذين يجب أن توازي صلاحياتهما ونفوذهما الحكومة، وألا يكونا تابعين لها، وذلك لكي يقُوما بواجباتهما المنصوص عليها في النظام الأساسي للدولة. ويجب تذكير الجميع بحرص القيادة الحكيمة والتأكيد المستمر لحضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم على ترسيخ دولة القانون والمؤسسات، كخيار أساسي لا رجعة فيه؛ إذ نستشهد هنا بالنطق السامي لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- في هذا المجال، فيقول "العملَ مستمرٌّ في مراجعةِ الجوانبِ التشريعيةِ والرقابيةِ وتطويرِ أدواتِ المساءلةِ والمحاسبة، لتكون ركيزةً أساسيةً من ركائزِ عُمانَ المستقبلِ، مؤكدينَ على أهميتِها الحاسمةِ في صون ِحقوقِ الوطنِ والمواطنين ودورِها في ترسيخ ِالعدالةِ والنزاهةِ وستحْظى هذه المنظومةُ برعايتِنا الخاصة بإذن ِاللهِ تعالى".

وعلى الرغم من وجود منظومة قانونية ومؤسسات وطنية وجدت عبر عقود النهضة العُمانية المتجددة لتحقيق طموحات الوطن والمواطن، إلا أنَّ هناك من يجد لنفسه ثغرات مُعينة في تطبيق وتفسير التشريعات والقوانين بطرق ملتوية، خاصة ضعفاء النفس، وذلك عند تطبيق الحقوق والواجبات بين أفراد الشعب.

يبدو لي أنَّ هناك فهمًا خاطئًا لدور الإعلام التنويري خاصة في مجال النقد البناء وعلى وجه الخصوص من جهة بعض المسؤولين الذين تتعرض وزارتهم للتقييم وقياس الأداء من قبل كُتّاب الرأي في الصحف العمانية الورقية منها والإلكترونية، وكذلك رواد وسائل التواصل الاجتماعي، فالنقد من وجهة نظر هؤلاء الوزراء والوكلاء غير مقبول؛ بل يعد ذلك خطا أحمر ومن المحرمات، انطلاقًا من القاعدة الدارجة بأن كبار المسؤولين في بلدنا مُنزّهِين عن الأخطاء والخطايا!

وللخروج من هذا المأزق ولكي تتجاوز الإحراجات وسوء الفهم، تحرص الصحف اليومية والإذاعات الخاصة في هذا البلد العزيز، على تجنب ذكر الأشخاص والتركيز على الأعمال التي قد يشوبها الخلل فقط؛ بعيدًا عن شخصنة الأمور، بهدف التقويم والإصلاح، وليس التشهير. فيجب الاعتراف بأن جميع الخطط الإستراتيجية التي تنفذها جهات الاختصاص قد تتعرض للإخفاقات في بعض الأحيان، فيحتاج المنفذون لها لعين ثالثة لضبط المسار وتحقيق الأهداف وتصحيح الأخطاء والوقوف على التحديات، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال الفشل أو نهاية الطريق، كما يحلو للبعض أن يقول في مثل هذه المواقف؛ بل هذا بداية جديدة لتكملة مشوار الألف ميل للوصول لغاية تلك الاستراتيجيات الوطنية.                 

لا شك أنَّ تجربتنا في حرية التعبير تعد قصيرة بالمقارنة بكثير من دول العالم، من هنا تضيق صدور البعض بالمقالات اليومية التي أصبحت بالعشرات في العديد من الصحف اليومية، خاصة جريدة الرؤية العمانية التي تقود هذه التجربة الجديدة نسبيًا في السلطنة بحكمة واقتدار. لقد عودتنا وسائل الإعلام عبر العقود على إبراز الإنجازات التنموية، وتجنب كشف السلبيات والعيوب التي في العادة مصاحبة لأي عمل وتجربة عبر التاريخ.

فهناك من الناس الذين لا يدركون أنَّ مقالات الرأي ليست بالضرورة صائبة على الدوام؛ بل هي تعبر عن رأي الكاتب الذي يحتمل الخطأ أو الصواب؛ فهناك دائمًا اختلاف شاسع بين الحقيقة أو الخبر الذي يعد مقدسًا وغير قابل للتلوين والعبث، وبين رأي الكاتب الذي يُعبّر فيه عن رأيه الشخصي فحسب، لذا نلاحظ في معظم الصحف العربية عبارة تقول "آراء الكتاب في الصحيفة تعبر عن وجهات نظرهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الجريدة".

ووسط هذا الحراك الفكري الذي تشهده الساحة العمانية في هذه المرحلة من تاريخ السلطنة، تظهر في الأفق بعض البوادر الإيجابية المشجعة التي تُقدِّر وتُثمِّن جهود الصحافة والعاملين في هذه المهنة من الإعلاميين والكتاب، من بعض المسؤولين وإن كان عددهم لا يتجاوز أصابع اليد، فهؤلاء الوزراء هم اسثناء من القاعدة، ذلك لكونهم على ثقة بعمل وزاراتهم ويقفون على لكلِّ كبيرةٍ وصغيرة في تلك الوزارات. ولعل الرسائل التي وصلتني خلال العامين الماضين من الدكتور وزير الزراعة والثروة السمكية السابق في أبريل 2020 الذي بادر بالتواصل معي بعد أقل من ساعة من نشري مقالًا بعنوان "تحديات الأمن الغذائي في السلطنة"، خيرُ دليلٍ على هذه العلاقة الجديدة، حيث قال: "شكرًا دكتور، مقال متوازن ومُمتاز"، كما إن الاتصال الهاتفي من الشيخ وزير الخدمة المدنية سابقًا عندما كان على رأس عمله في مايو 2020، وذلك حول مقالي بعنوان "إدارة ملف الباحثين عن عمل"؛ إذ كان تواصله وطرحه الصادق والحكيم حول ذلك الملف تعبيرًا عن ثقته واحترامه لحرية الرأي والتعبير لكونه أحد الشخوص الذين يشار لهم بالبنان في مجال القانون في السلطنة، في حين تجاوب الدكتور رئيس جامعة السلطان قابوس السابق مع أحد مقترحات مقالي المنشور في 29 أبريل 2020 "إدمان النفط" قائلًا: "مقترح ممتاز، وقد أرسلته للإخوة في الكلية"، مما يعكس تفاني هذه القامات الأكاديمية والقانونية في مجال عملها، وتوظيف علمها الغزير وخبراتها المتميزة في طريق الارتقاء بمستوى هذا الوطن العزيز.

وعلى الجانب الآخر، هناك من يقف موقف الخصم من الصحافة، فيتجاهلون التعاطي مع الإعلاميين الذين يبحثون عن المعلومة الحقيقية التي تكون في العادة حبيسة أدراج صناع القرار خاصة الوزارات الخدمية؛ فيزعمون أن كل شيء على ما يرام، وبالتالي يستخدمون نفوذهم في مصادرة فكر الآخرين ومنعهم من الكتابة والنقد الذي يثير الرأي العام من وجهة نظرهم الضيقة.

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري