دماء على الإسفلت

 

مسعود الحمداني

samawat2004@live.com

 

 

(إلى تلك الأرواح الطاهرة التي انتقلت إلى بارئها ذات ليلة شديدة القسوة).

(1)

أرواحٌ بريئة صعدت إلى بارئها قبل أيام، طالباتٌ في زهرة العمر ينتظرن الأمل والمُستقبل تناثرن أشلاء على الطريق في طريق عودتهن إلى أحضان أسرهن، قدرٌ فاجع، وألمٌ يعتصر القلب، فحين يأتي الموت دون إنذار يكون الوجع عظيمًا، والحزن عميقًا جدًا، أعمق مما نتخيل، وأصعب مما نتصور، خاصة حين يكون الفقد في من وضعنا فيه الآمال كلها، وفي من علقنا عليه الأحلام برمّتها، فإذا بالقدر يُفاجئنا فيخطف منِّا فلذات أكبادنا الصغيرات اللواتي رحلن دون وداع، وغبنَ دون كلمة، وسافرن دون عودة.

(2)

أحيانًا تقف الكلمات عاجزة عن الحراك، والمُفردات مبتورة من جذورها، والعبارات خاوية لا تستطيع إنصاف المشهد، خاصة حين يكون المشهد أكبر من برواز اللغة، ويكون الفاقد والمفقود في ميزان واحد من الفاجعة، ولكن يبقى الموت واحداً، والفقد أعظم شراسة مما نتخيل، والحزن غراب ينهش في قلوب الأحبة، حينها نشعر أن كل شيء أتفه مما نعتقد، وأن الحياة أقصر مما نتوقع، وأن الموت يتربص بنا من كل جهة، وينقض على فرائسه دون رحمة، ودون أن يمنح فرصة أخيرة للراحلين.

(3)

لا ندري ما هي آخر الكلمات التي تحدثن بها تلكم الطالبات اللواتي اجتمعن في "حافلة الموت"، ولا نعلم آخر الحكايات التي كنَّ يحكينها، ولا آخر الضحكات التي تبادلنها، ولا نعرف عن أي حلمٍ تحدثن، ولا عن أي مستقبل تبادلن الكلام، ولا عن أي إفطار ينتظرهن في المنزل مع أسرهن الملهوفة، لعلهن تحدثن عن ملابس العيد، أو عن الإفطار الذي طلبنه من والدتهن، أو عن الدراسة، أو عن زيارة قادمة، أو عن حياة يخططن لها، لعلهن تحدثن عن كل ذلك وأكثر، ولعلهن كنّ نائمات في صمت، كما رحلن في صمت.

(4)

فجأة خرست الأحلام، وسكت الكلام المُباح، وأظلمت الدنيا، وفي غمضة عين رحلن، دون كلمة وداع لأم منتظرة، أو لأب مستبشر، أو لأخ لطيف ومشاكس، ذهبن بعيدا إلى السماء، هناك حيث بياض الغيم يلف أجسادهن الطاهرة وأحلامهن البريئة، ذهبن وفي العين دمعة أم مكلومة، وغصة أب مفجوع، ووجع أخ منتحِب، وصدمة صديقة باكية، وأمل وطن منتظر، ولا عتاب يُعيد الغائبين، ولا غضب يُعيد المفقودين، ولا صراخ يرد الذاهبين، فهكذا نأتي باكين، ونرحل عن الدنيا باكين، دون أن يكون لنا خيار في أقدارنا.

(5)

لن نحلل الأسباب، ولن نسأل عن المتسبب، لأنَّ ذلك لن يعيد من رحل، فخالص التعازي لأسر الضحايا، ونسأل الله أن يتغمد الفقيدات برحمته، وأن يلهم أهلهن وذويهن الصبر والسلوان، وأن يجمعهم في فردوسه الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ولا نملك إلا أن نقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون".