في ظل الوعي

 

هند الحمدانية

لا يُمكن لك التكهن بعد  خطوتك اليمين أين ستنتهي بك خطوتك اليسار، حتى لو كنت من أولئك المنظمين الذين يضعون الخطط المسبقة، فهناك مطبات استثنائية لم تكن في خارطة طريقك ولم تكن متوقعة، وفي ظل سعيك الدؤوب نحو تطوير تفكيرك والارتقاء في سلم الوعي بذاتك سوف تصل إلى نقطة نهاية ثابتة وحقيقة واضحة أن المنظور العلمي في تطوير الذات والكتب والبحوث الثرية في العلوم المختلفة من علم النفس والاجتماع والإدارة وغيرها مهما تعمقت بها ونهلت من معينها لن ترتوي أبدًا ولن يرتوي ظمؤك الذي ساقك إليها، لأنها وببساطة ثمار غنية ويانعة امتدت من شجرة أصيلة، وأنت الآن فقط تتذوق الثمار الشهية ولكنك لم تصل إلى جذور شجرتها الأصيلة ولم تلتقِ بالجوهر المكنون.

كابوس غريب.. يتكرر على منامي منذ فترة.. أراني في غرفة واسعة ذات شبابيك أربعة مفتوحة، تتمايل ستائرها البيضاء مستجيبة لهبوب الريح وقت السحر، وأنا أتلمس عقدا ثقيلا يمتد حول رقبتي، عقدا سميكا.. لا ليس عقدا!!  إنه حبل.. حبل مشنقة.. أشعر بملمسه الخشن في أطراف أصابعي، وبعدها أشعر به يضيق ويشتد سريعًا حول عنقي، حتى تشحب تفاصيل وجهي وتشحب معها ملامح الحياة التي كانت تسري فيني، حتى أكاد أن أسلم الروح لبارئها، ثم يرخى الحبل فجأة وتعود أنفاسي قوية فتية لكل جزء مني ولكل خلية.

كان هذا حلم غريب خيَّم على أحد خبراء التنمية البشرية العظماء وأهم المستشارين في تطوير الذات والبرمجة اللغوية والعصبية، كان بروفيسور ملهم قاد مئات الآلاف من المتدربين نحو النجاح والتغيير للأفضل وكيفية توجيه الطاقة البشرية لأقصى درجات العطاء والإيجابية، ولكن كان هناك مخبأ معتم وضيق في صدره لم يُفلح أن ينير عتمته، ولطالما أحس بالعجز من أن يتجاوزه، كان فراغًا أسود صغيرًا جدًا لكنه أعمق من كل نجاحاته وعلومه التي يسردها على آلاف المنصتين له من كل العالم، فكانت هذه الرؤية رسالته القاسية التي تنتهز كل غفوة فتفسد راحة باله وسكينته.

ضاق صدر عالمنا المتخصص في إبهاج القلوب ورحابة الصدور، وعبس وتولى بعد أن كان شرح الفؤاد والعقل والخاطر، فبدا له أن مفتاحا ضاع منه، مفتاحٌ له القدرة على رد الرحابة إلى صدره والبهجة إلى روحه، وتفسير تلك الرؤية هو المفتاح، سأل كثيرا من المفسرين وتوصل إلى أن تفسيرها هو قلق مستمر يستعر في جوف قلبه ثم ينهك قواه ويسلب ندى أيامه إن لم تنزل عليه السماء غيثا ينجيه من نار تفكيره وقلقه ويملأ الهوة السوداء في داخله.

أيقن أخيرًا أن العلم المجرد من الإيمان وحده لا يكفي للنجاة والفوز، العلم هو سيف المحارب في معركة الحياة ولكن أين قلب المحارب الغض الشجاع ومصدر قوته؟!

القلب والمصدر.. القلب يحتاج إلى راحة البال وسكينة الروح، ولا يمكن للعلم وحده أن يعطيني ما أحتاج، إذًا ما هو المصدر المنشود، وأين أجد ضالتي ومفتاحي الذي أضلني فطرتي؟!

ذكر العلماء تعريف المصدر لغةً: بأن صدرَ كلِ شيءٍ أولهُ، واصطلاحاً: هو الاسمُ الذي يدل على حدث مجردٍ من الزمن، فما هو أول كل شيء ومن هو المجرد من الزمن؟!

وهنا يحضرني حوار مع أحد الدكاترة الأكاديميين والمفكرين السياسيين في زمننا المعاصر، قضى معظم فترة طفولته ومراهقته في كلية فيكتوريا الإنجليزية وهي مؤسسة تعليمية تعتمد منهجا بريطانيا صارما في تأسيس الطلبة، فلم يتلقى علوماً إسلامية ولم يتمكن في أبسط الأحوال من لغته العربية فهي لم تكن خيارا متاحا في فيكتوريا، وبعد انتهائه من الدراسة ابتعث لدراسة الطب في مانشستر بالمملكة المتحدة، لكنه وبعد مضي عام واحد فقط ترك دراسته إثر وقفة قصيرة على زجاج مكتبة صغيرة في أحد شوارع مانشستر عندما لفت انتباهه كتيب صغير الحجم بعنوان "لماذا لست نصرانيًا"، فدخل المكتبة واشتراه وقرأه بعدها عشرات المرات، كان الكتيب يتحدث عن الإلحاد بشكل غير مباشر ويرغب به بأسلوب ذكي ومُقنع، أحس صاحبنا بأنَّه يقف على أرضية هشة وأنه لا يملك جوابا لكل هذا الشك الذي بدأ يتسرب إلى أعماقه، خاف كثيرا من أن تغدر به نفسه فترك تلك المدينة ودراسته وفرَّ إلى موطنه باحثا عن جواب لشكه وعن دواء لهشاشة روحه، فأنعزل في رحلة تأمل وتفكير في كل ما يخص القرآن والتفسير وعلوم الدين واللغة والتنوير، ثم عاد بعد أن اتصل بسليقته النقية ومصدره الأصيل لاستكمال دراسة البكالوريوس ثم الدراسات العليا والدكتوراه، فأصبح ناقدا مؤثرا ومفكرا صلبا ومنارة للحائرين، فماهي رحلة التأمل والتفكير نحو المصدر، التي تجعل منِّا مطرا جارحاً ووابلاً وهتاناً بعد أن كنَّا رذاذا وطلا؟!

كل العلوم خير، ولكن خير العلوم وأولها هو القرآن وتفاسيره والإلمام بمعانيه ومقاصده وهو الثبات والعزم في زمن الفتن والوهم، والله هو المصدر المطلق الذي نستمد منه كل مفتاح ونفتح باتصالنا به كل قفل، ولأنَّ خير العلم والحديث هو كتاب الله، فكان سبيلا قويما لكل عالم وطالب علم أن يتصل بمصدره الأصيل أولا ثم بعدها ينطلق تحت ظلاله إلى شتى علوم الحياة ومناهلها.

وهنا أتذكر المفكر السعودي علي الهويريني- رحمة الله عليه- عندما قال: لم أقرأ كتاباً منذ بلغت الأربعين إلا القرآن الكريم، وذلك بعد أن كان قارئا نهما في فترة شبابه الأولى ولكنه استوعب بعدها أنَّه كان بحاجة إلى استيعاب مصدر العلم الحقيقي المطلق وهو التفقه في كلام الله وتفاسيره.

في ظلال الوعي بمصدرنا الأصيل نصبح أقوى من أي وقت ومن كل شيء، نصبح الإيمان الذي يحرك الجبال والعلم النافع الذي تتوارثه الأجيال، يقول الله تعالى) يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

تعليق عبر الفيس بوك