في المسألة الأوكرانية.. حين يتوجع الشرق العربي

هل يولد الاستقلال الاقتصادي مجددًا؟

 

 

د. رفعت سيد أحمد

 

مع اقتراب الحرب في أوكرانيا من نهاية شهرها الثاني (بدأت في 24 فبراير 2022) تزداد آثارها وضوحا علي كل الأبعاد: دوليا وإقليميا وداخليا وعلى كل المستويات: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في توليفة متداخلة ليس سهلا فصل بعضها عن بعض.

ولعل الشرق العربي كجغرافيا دولية قريبة من الحدث أو بحكم التواجد الروسي والامريكي بكثافة في قضايا الشرق ومصائره، أوبحكم الاقتصاد حيث تتواجد أهم ثروة عالمية مطلوبة وهي النفط والغاز، هذا الشرق هو الاكثر تأثرا سلبيا بالحرب الاوكرانية خاصة أن أغلب دوله لاتزال تعتمد في تعاملاتها الاقتصادية وفي قراراتها السياسية علي الغرب وبعض دول هذا الشرق لم تزل غير قادرة علي إتخاذ قرارات مستقلة فيما يتعلق بقضاياها الكبري، اليوم وفي آتون الحرب المستعرة كان أهم جوانب التأثر السلبي علي دول الشرق العربي هو التداعيات الاقتصادية السلبية والتي بدأت في الظهور في العديد من بلداننا العربية متمثلة في هوجة متصاعدة من الغلاء في الاسعار وتزايد في وتيرة القروض والديون الخارجية مع ارتفاع (مفتعل في أغلبه) لسعر الدولار في الأسواق المحلية يصاحبه تضخم كبير في حركة الاقتصاد وفي المجمل نحن أمام عالم جديد من "الوجع الاقتصادي" سيشعر به الجميع دون إستثناء :أغنياء وفقراء، دول نفطية ودول غير نفطية، دول قريبة من روسيا أو تلك الحليفة لأمريكا، الكل دخل دائرة التأثر الاقتصادي السلبي لهذه الحرب بكل تداعياتها وسنحاول في هذا المقال استشراف ملامح وأبعاد هذا "الوجع الاقتصادي" خاصة في شرقنا العربي، فماذا عنه؟!

أولًا: رغم السمعة التاريخية غير الطيبة للبنك الدولي خاصة في مجال ضرب الاستقلال الاقتصادي للدول، إلا أن بعض دراساته تعد مهمة في كشف الآثار السلبية للحروب ومنها هذه الدراسة الحديثة التي أعدها فريد بلحاج نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتي خصصها للآثار السلبية للحرب الروسية في أوكرانيا علي دول الشرق الأوسط (هم في البنك الدول لا يحبون اسم الوطن العربي أو الشرق العربي للاسف ولاسباب سياسية وعقائدية تاريخية كارهة بالأساس للعروبة منذ زمن عبدالناصر!!). يقول بلحاج في خلاصة دراسته أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مُعرَّضة لتداعيات اقتصادية قاسية؛ فالمنطقة بمثابة جارٍ لأوكرانيا، لا تفصله عنها سوى مسافة تبلغ قرابة ألف كيلومتر إذا رسمنا خطاً مستقيماً مُتصوَّرًا من أوكرانيا إلى بلدان الشرق الأوسط (في الواقع المسافة أطول من ذلك قليلا). وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن بعض بلدان المنطقة أيضاً قريبة جدًا من أوكرانيا وروسيا كشركاء تجاريين. وبالتالي، فإن آثار الأزمة ستكون ملموسة- وإن كانت بدرجات متفاوتة- على اقتصادات المنطقة، ومما يبعث على الأسى أنه قد تكون لها تبعات سلبية مُضاعفة على مستويات الأمن الغذائي والرفاه في كل المنطقة، فضلاً عن جائحة كورونا، وتعطُّل سلاسل الإمداد، ومشكلات داخلية تخص كل بلد من بلدانها.

وانطلاقا من هذه الرؤية يخلص نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون الشرق الأوسط فريد بلحاج (وهو لبناني الجنسية) أن تأثير الأزمة- الحرب سيتمثل في خمس فئات وهي: 1) صدمات أسعار الغذاء (لا سيما القمح)، 2) زيادات أسعار النفط والغاز، 3) عزوف المستثمرين عن المخاطر/ جنوحهم إلى الاستثمارات الآمنة (الأمر الذي قد يؤثِّر على تدفقات رؤوس الأموال الخاصة على الأسواق الصاعدة ككل، 4) تحويلات المغتربين، و5) السياحة.

 ومن وجهة نظر البنك الدولي أن الحرب في أوكرانيا ستوثر تأثيرًا ملموسًا وسلبيًا على عدة اقتصادات في المنطقة (وبالأخص لبنان وسوريا وتونس واليمن)، فهذه البلدان تعتمد اعتماداً أساسياً على أوكرانيا وروسيا في الحصول على وارداتها الغذائية، ولاسيما القمح والحبوب. ومن المتوقع أن تؤدي الأزمة إلى تعطُّل سلاسل توريد الحبوب والبذور الزيتية، وزيادة أسعار الأغذية، وارتفاع كبير في تكاليف الإنتاج المحلية في قطاع الزراعة. وستكون لانخفاض غلات المحاصيل والدخول لاسيما لصغار المزارعين آثار سلبية على سبل كسب العيش، وقد يؤثِّر ذلك على المنتمين إلى الفئات الفقيرة والأكثر احتياجاً الذين يعتمدون على الزراعة في كسب أرزاقهم، وفي تقديرنا بالإضافة لهذه البلاد التي ذكرها البنك الدولي في دراساته الاستشرافية عن تأثيرات الحرب في أوكرانيا، ثمة دول أخرى ستتأثر في المدى الطويل ومنها منظومة دول الخليج ومصر وبلاد المغرب العربي رغم محاولات الاستعداد للازمة وامتصاص موجات الغلاء عبر حركة الدعم الحكومي ورفع الفوائد البنكية لدى بعض الدول.

ثانيًا: بالتأكيد ليس الشرق العربي وحده هو الذي سيتوجع اقتصاديا من جراء هذه الحرب، ولكن أوروبا وأمريكا سيتوجعان أيضا وإن بنسب متفاوتة في القوة وذلك وفقا للدراسات العالمية المحايدة فوفقا لرؤية تنبؤية للمعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا عن الآثار الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية باستخدام نموذج قياسي عالمي (NiGEM) قدر تراجع الناتج المحلي الإجمالى للعالم بنسبة 1% بحلول العام 2023 بما قيمته 1 تريليون دولار. كما قدر النموذج ارتفاع معدلات التضخم عالميا بنحو 3 نقاط مئوية فى العام 2022 ونقطتين مئويتين فى العام 2023. وإذا كانت روسيا وأوكرانيا موردًا سلعيًا مهمًا لمعادن الحديد والتيتانيوم والبلاديوم، فإن آثارًا سلبية من المتوقع أن تمتد إلى سلاسل الإمداد المرتبطة بتلك المعادن ومنها صناعة السيارات والهواتف الذكية والطائرات.

ويتوقع المعهد الوطنى أيضًا أن تكون أوروبا الأكثر تضررًا من النزاع الجاري، نظرًا لطبيعة التشابكات التجارية بين طرفي النزاع من جانب وبين سائر دول القارة، وأن تكون الاقتصادات الناشئة أقل تأثرًا بتداعيات الحرب من الاقتصادات المتقدمة. ويتوقع زيادة الإنفاق العام بمختلف دول العالم وخاصة فى الدول الأوروبية لمواجهة تيار اللاجئين المتدفق من أوكرانيا، ولدعم المجهود الحربى والإنفاق العسكرى، بما يقلل نسبيا من الآثار السلبية لتراجع الناتج المحلى الإجمالى فى أوروبا، وإن كان ذلك الإنفاق يفرض مزيدا من الضغوط التضخمية على دول أوروبا فى المقام الأول تاليها دول الشرق العربي التي ترتبط عضويا بأوربا وأغلبها يعيش علي سياسة القروض والديون من هذة المنومة الاوربية فيصبح طبيعي جدا أن يتأثر مثلهم بأوجاع هذه الحرب وتداعياتها المرة. الاثار السلبية السابقة أكدها أيضا كبير مسؤولي الاستثمار العالمي في بنك "كريدي سويس" مايكل ستروبيك، الذي أكد أن موجات الصدمة المنبثقة عن الغزو الروسي كانت بمثابة "فجر نظام عالمي جديد" للاقتصاد الدولي، حيث يمكن اعتبار ارتفاع التضخم وتقلبات الأسواق المالية أمرامؤكدا ومفزعا في كل بلاد العالم.

وجدير بالذكر وتواصلا مع هذه الاثار الاقتصادية السلبية للحرب فإن أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا ارتفعت بنسبة 70% بعد غزو أوكرانيا، بينما تجاوز سعر النفط العالمي الـ105 دولار للمرة الأولى منذ عام 2014، مما يغذي احتمالية زيادة أخرى في تكاليف المعيشة.

وتتأثر بعض البلدان أكثر من غيرها، حيث يمثل الغاز الروسي 40% من إمدادات الطاقة في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من ارتفاع هذه النسبة في بعض الدول مثل جمهورية التشيك ولاتفيا إلى 100%.

وستتأثر ألمانيا أيضا لأنها وفقا لسياساتها الاقتصادية في العقدين الأخيرين صارت أكثر اعتماداً على مصادر الطاقة الخارجية؛ حيث ارتفعت إلى 67% وهي من بين أعلى المعدلات في الاتحاد الأوروبي

إذن العالم كله سيتأثر وسيتوجع من حدث كبير جري بين دولتين يوم 24 فبراير 2022 يقعان على مسافة بعيدة عنا (المسافة مثلًا بين مصر وأوكرانيا تقترب من حوالي 2400 كيلومتر) لكن العالم سار متداخلًا ومتشابكًا وتبادليًا، أضف الى ذلك أن أغلب دول الشرق ما زالت بلا اقتصاد مستقل وهذا هو "بيت القصيد" الذي يتطلب من تلك الدول أن تستفيد من الأزمة الأوكرانية وآثارها الاقتصادية الكارثية، وتشرع في بناء اقتصادها الوطني المستقل غير المعتمد على القروض والمنح والاستيراد بكثافة بل للضرورة فقط.

إن هذه الحرب التي قد تطول لسنوات بقدر ما هي "محنة اقتصادية" لبلاد الشرق العربي، وهي أيضا "منحة تاريخية" لها لتعيد تأسيس نفسها واقتصادها على أسس مستقلة وذاتية القوة بالدرجة الأولى.. ترى هل يستطيع الشرق العربي ذلك؟ سؤال يرسم المستقبل.