ناصر أبوعون
عاش الشيخ هاشم الطائي جُلّ حياته يضرب آباط الإبل ويشدّ الرحال إلى الله ليكون من أهل القبول وفي سبيل ذلك كان قد قرض الدنيا وزهد في زخرفها، ويحتُّ اللمم من الذنوب عن طريقه التي رسمتها الأقدار، فإذا ما رأى انشغال أكثر الناس بطلب الدنيا وتثمير زائلها ولّى وجهه شطر الحكمة يتأولها وأهطع إلى الآخرة واستبرقها، ومن حسن الأقدار أن يقع حبه في قلوب أشياخ وخُدام المسجد النبويّ الشريف فبسطوا له أجنحتهم، وأكرموه بالدخول إلى (الصّفّة) التي دفن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن زهد الشيخ هاشم حائلا دون سعيه في الحياة الدنيا لخدمة وطنه والإصلاح بين الناس متدثرا بالدعاء ولا يستطيل عليهم بالفضل. فلمّا أذن الله أن يقع في كونه ما سبق به علمه واعتلى سّدة الحُكم في عُمان السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- كان من أوائل المستقبلين له في مطار بيت الفلج بصحبة الشيخين الجليلين أحمد بن حمد الخليلي، وإبراهيم بن سعيد العبري، مستبشرين بالعهد الجديد ومشاركين في بناء النهضة العمانية الحديثة، وقد استعان به السلطان قابوس في إعادة هيكلة القضاء العماني ليواكب تطورات العصر فأوفد إليه السيد سعيد بن هلال البوسعيدي زورات متتالية في بيته، وجلسات متناوبة للتشاور معه والاستئناس برأيه في تأسيس المنظومة القضائية الحديثة، بغيةَ تطوير النظام القانونيّ في سلطنة عُمان.
وقد رسم له السلطان تذاكر سنوية إلى أي وجهةٍ تهوى نفسه الاستئناس بها والسياحة فيها فداوم على زيارة مصر بلا انقطاع إلا مرة واحدة غيَّرَ فيها مقصده إلى الهند بصحبة زوجته الفاضلة جوخة بنت أحمد الكندية لعلاج ابنه عيسى، وقد نزل فيها ضيفا بقصر المغفور له- بإذن الله- عبد المنعم الزواوي وكان حينها غير موجود فأكرمتهم قرينته أسماء، وأحسنت ضيافتهم هو وأهل بيته.
وكان الشيخ ممن ترك الجدال إلا في علم ينتهي به إلى ممخاضة الرأي والارتفاع إلى جادة الصواب والإيضاع إلى أهل العقل ومصاحبة أقران الفكر وأولي النهى في حِلّه وترحاله، حتى إذا نزل بأهل مصر لم تصرفه روعة وجمال عمارتها، وطيب مناخها ودماثة أخلاق عوامها، وجلواء حضارتها عن عُمان وأهلها التي كان يحملها في سويداء قلبه فيشترط في المسكن المستأجر سعة مجلسه ليصلح لصلاة الجماعة ويكون سبلة ترحيب بالمشايخ وأصحاب السعادة من السفراء وأعيان عمان الذين أكرموا وفادته، وأحسنوا استقباله وضيافته، واستأنسوا بمجلسه ومنهم المغفور لهم- بإذن الله تعالى- السفير العُماني بالقاهرة الشيخ سعود بن علي الخليلي والشيخ سليمان بن حمير النبهاني والشيخ طالب بن علي الهنائي والشيخ سليمان بن بلعرب النبهاني والشيخ صالح بن عيسى الحارثي والشيخ يحيى بن سفيان الراشدي وناصر بن سلطان بن سليمان بن حمير النبهاني.
ومن مآثر هذه الحقبة ما حكاه ابن أخيه عبد الله بن حمود عن أول زيارة للشيخ هاشم بمصر وانبهاره بنهر النيل ومقارنته بـ"فلج بوسمّان" في قرية بوشر فنظم قائلًا:
[وإذا أتيت نهر "بو سمان" قل
يا نهر هاشم عنك صادف أنهرا]
فلما جال في شوارع المحروسة، وترجّل بين أحيائها، ورأى كثرة اللوائح الإرشادية للعيادات الطبيّة المعلقة فوق واجهات البنايات مكتوب عليها "دكتور فلان الفلاني" فقال مازحًا: "هنا يأتي من أراد أن يمرض!". وذلك لكثرة ما رآه من كثرة الأطباء.
لقد كان الشيخ القاضي هاشم الطائي بحرا في العلوم ونهرا في الكرم ران على قلبه حب الأضياف، والإيناس لانثيال الناس وانصبابهم على مجلسه من السادة والعوام، والعلماء والطلاب، وكان مريديه وزوّاره على اختلاف مشاربهم أُسوة لافرق عنده بين هذا وذاك؛ فبسط لهم يد السخاء، وباعد بين مصاريع "بيت الشريشة" فلم تُغلق يوما ليكون مأوى للقاصدين من أنحاء عُمان وخارجها إلى مسقط؛ ومما حكاه السيد سعيد بن هلال بن محمد البوسعيدي أنّ سبلة "الفوق" للشيخ هاشم وعائلته في سيبا بقرية بوشر، كانت مركز ضيافة ومدرسة في آنٍ واحد؛ عامرة بالضيوف وتُقرأ فيها كتب الفقه وأصوله، مع العلوم النافعة والأداب والفوائد وطرائف الحكم وغرائبها المستطرفة، ومن مظاهر كرمه أنه دعا يوما أربعين طالبا من معهد القضاء على العشاء في بيت ابنه عبد العزيز في منطقة الموالح، وكان لا يخلو بيته من الأساتذة والمعلمين المستقدمين من مصر والجزائر وتونس للعمل في مدارس التربية بمحافظة مسقط، ومن على شاكلتهم من علماء الإباضية الذين جاءوا إلى عمان زائرين وللوصل طالبين نذكر منهم الشيخ الناصر المرموري من وادي ميزاب بالجزائر. وقد حكى كثير من أهل زمانه عن مأثور عاداته في باب الفكاهة والكرم أنه "كان يُحلِّف ضيوفه ليتأكد أنهم شبعوا".
سار الشيخ هاشم الطائي على منهاج الصحابة والتابعين، وتتبع آثار وسنن الأولين فكان ما بين العصرين؛ الغداة والعشي قاضيا ومعلما لا يثبطه الآيسون ولا يستحث حفيظته المرجفون لم يعرف النكوص إليها طريقا، حمي الأنف يأبى الضيم والقعود عن الفهم والركون إلى الدعة سما فوق الآلام، ولم توهنه قوارع الدهر ودواهيه، أخذ تلاميذه بالملاطفة، واستهنأ طلابه في مسجد الخور ومعهد القضاء بالمؤانسة؛ فتخرج على يديه ثلة من القضاة النجباء والمشايخ الفضلاء نذكر منهم الشيخ مسعود الراشدي، ونائب محافظ ظفار الشيخ عبد الله بن سيف المحروقي، وأحمد بن سلطان المحروقي، ويؤثر عنه أنه كان يداعب القاضي أحمد بن ناصر الراشدي كلما التقاه مناديا:
[يا أحمد بن ناصر/// يا معدن المفاخر]
ومن العادات التي دأب الشيخ هاشم المداومة عليها بعد صلاة العشاء أنه كان يسهر أو يرمس مع أصدقائه القضاة والعلماء والخواص وخاصة ممن جاوروه في سكناه نذكر منهم الأخوان الشيخ القاضي إبراهيم وعبد الله بن سيف الكندي، والشيخ سالم بن حمود السيابي، والشيخ إبراهيم بن سعيد العبري.
فلمّا أذن الله بأن تُسترد وديعته، ويهنأ الشيخ هاشم بلقاء ربه، حضرته الوفاة، وفي ذلك يحكي الدكتور محمود بن مبارك السليمي بأن الأستاذ مبارك الحراصي دعا لفيفا من العلماء والفضلاء في بيته بالخابورة وكان سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي على رأس المدعوين غير أنه تأخر في الوصول إليهم للحاقه بوداع الشيخ القاضي هاشم بن عيسى الطائي والصلاة عليه، فلما وصل إليهم وجدهم قد صلوا عليه؛ فطلب منهم التريث قليلا وإيقاف الجنازة لكي يصلي عليه، ثم توجه إلى الخابورة ولوحظ عليه علامات التأثر والحزن على فقدان الشيخ هاشم لما بينهما من صحبة وجيرة وجلسات علمية وأدبية مدة طويلة من الزمن وألقى عليهم بيتا وعظيا يدلل على مدى عميق حزنه:
[وإن إفتقادي واحدا بعد واحد // دليل على أن الفراق قريب]
ونقل الشيخ عبد الرحمن نجل سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي؛ شهادته عن الشيخ هاشم فقال: "معرفتي بالشيخ هاشم كانت منذ رجوعي من زنجبار، وكان أول لقاء بيننا عندما جئت إلى مطرح وزرت الشيخ عبد الله بن علي الخليلي فوجدت الشيخ هاشم برفقته، ثم بعد ذلك ذهبت إلى بهلا مدة عشرة أشهر، وبعد رجوعي إلى مسقط كان الشيخ هاشم في سمائل فترة الصيف، وبعد انقضائها، ورجوعه إلى مطرح كنا نلتقي بشكل أسبوعي وأحيانا نلتقي أكثر من مرة في الأسبوع الواحد. ثم سكنت بجواره في منطقة ميابين بمسقط، وقد كان كريما كرما حاتميا طائيا واتصف بدماثة الخلق ودقة الحفظ وكان متحدثا، كما كان رجلا مخلصا فقيها وصاحب نجدة وشهامة ويعوَّل عليه في المواقف".
ومن كمال سيرة الشيخ هاشم أن نشير إلى زواجه بأربع نسوة؛ كِنديتين والفاضلة عزة السمائلية زمن توليه القضاء في سمائل وبدبد زمن الإمام الرضي محمد بن عبد الله الخليلي [1919- 1954م]؛ وزوجة رابعة من بني فلاح، فأعقب من الكنديتين ستة عشر بطنًا، وكان له من حليلته الأولى الفاضلة جوخة بنت أحمد الكندية عشرة بطون؛ أربعة أولاد وست من البنات الفُضليات؛ وأورثه الله من الكنديّة الأخرى الفاضلة علياء بنت سعود بن سليمان الكندية ولدا واحدا وخمس بنات.
رحم الله عالمنا الجليل الشيخ هاشم بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي، فقد ترك أثرًا طيبًا نفع به الأمة، وعلّم به تلاميذ نجباء تفوقوا في الفقه والقضاء.