عائض الأحمد
تخاطفتها الأقدار ورست بها في مرسى لم تكن تعهده، ليس حمقاً أو سوء تصرف أو جهل منها، إنها المركب التي حملتها دون أن يكون لها رأي أو علم، فتاة في مقتبل العمر تثق كثيرا فيمن تعتقده العالم ببواطن الأمور ورمانة العقل ربان السفينة فذ المنطق وساحل النجاة.
حملها على كفيه ثم ألقى بها في أحضان من يكبرها بسنوات، وجعل منها جارية تنام وتصحو بأمره يعطيها الهبات حتى أصابتها الحيرة، أكنت أميرته أم خادمته أم ربة منزله.
يدخن سيجارته وينظر لها باشمئزاز ماذا تُريدين؟ نسيها وتجاهل إنسانيتها، لم يقل لها يوما أي شيء تحب وأيهما تكره، خلق منها مسخاً يتلذذ بالعزلة وينكفى على نفسه يسامرها حتى طلوع الفجر ثم يتغطى بهمة إتقاء البرد وخوفا من لهيب شمس الغد الحارقة، كانت بارقة الأمل تأتيها هاتفا خلف ستار أحلامها فتمارس مالذَّ مستترا، تنشد به نشوة فقدتها، خوفا من أعين الناس واستباحة لعشير جعل من أفكارها سرا غامضا يبعد عنها آلاف الخطوات سيرًا، وهي تشاهده وتكاد تلمسه بطرف أصابعها.
عاثت بها الأيام فسادا فعلقت في مستنقعها دون حول منها أو قوة، يصدقها قول ويأتي بها عمل لم تتوقعه، فاضت أعينها حبا وتمرغت أشواقها وجلا، تناجي نفسها وحيدة باحثة عن طوق نجاة يغرقها تارة ويبتسم لها أحيانا أخرى.
تقف من شروق الشمس إلى غيابها على ناصية شارعها المزدحم تتأمل المارة وتبتسم في وجه الشقاء بقدمين ثابتتين على أرض لم تعتد السير عليها فإذا بها تحملها في ذهابها وعودتها.
لم تتفوه بألم يعتصرها ولم تبدِ اعتراضاً على قدرها ونهاية قصتها، فكلما اعتقدت قرب فرج آت خانها ظرف طارئ وسقط من بين يديها كأس آخر.
تقول عشقت الليل وكنت أبحث عن حرية جسدي بين أيدى الأغراب.
حكمة فقدت السمع والبصر وتلاشت ذاكرتها، حين أقر لها بأن زهرتها انتزعت من جذورها ورمى بها خارج عالمها لتزرع في بيئة لم تألقها ولن تألفها، كان واقع أمر من شرب العلقم وأثقل من صبر أيوب وأشد قسوة من ألم إبراهيم حين أمر فسمع وأطاع وسمع "افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين".
قبل بلوغها الستين تضع الآن أوزارها وتروي أيامها الخوالي بضحكة مجلجلة تخفي خلفها آهات تنتزع فؤادها كلما مر طيف ذاك الشهم الذي ترك ندبته الأخيرة بسيفه الحاد على قلبها فكان هو الأول وحلفت أن يبقى الأخير حتى تتوسد أرضها وتنطق بشهادتها لمن حق فيه القول والفعل والنجاة.
اختارها الزمان والمكان ولم يكن لها خيار، فنفثت دخان التبغ على شفتين كحبات الكرز، وقالت هذه جزء من كل، غيبته الخلفية الأرسطقراطية المفتعلة دون وعي.
يقول ابن قريتي مسعود متعاطفا مع روايتي ستكون "الناصية" المقابلة لشارع الفتاة منصة لي فهل تكرمت بجعلها بائع "الشاورما".
ختامًا.. لن تحاسب على أفعال لم تقترفها، ولكنك شاهد عصر، يرويها لمن سيأتي بعده.
*****
ومضة:
الحياة كمصباح، فاخترْ أكثرها إنارة.
يقول الأحمد:
لم يعد هناك ما يجب قوله عندما تفقد بصيرتك.