رمضان.. بين العادة والعبادة

 

مسعود الحمداني

samawat2004@live.com

(1)

اليوم ليس كالأمس، فشهر رمضان يحط رحاله الكريمة على الأرض، يفسح للروح مكانًا، وللقلب متسعًا، وللجوارح مساحة، يتغير كل شيء فينا، نتحول إلى كائنات نورانية تُحلق بأجنحتها طيلة ثلاثين يومًا، وتسافر في ملكوت السماء، تحاول لمس أبواب الريان، وتعصر حب رمان ونخل وأعناب، نتحول إلى كائنات هلامية تشبه الملائكة ـ إلى حين ـ، وتتغيّر بوصلة الأيام، واتجاه الريح، ونحاول أن نبدو أكثر بياضًا، وخفة، وإيمانا.

(2)

غير أنَّ الكون- في واقعه- لا يتغير، وسنن الملكوت لا تتبدل، فالسماء هي السماء، والأرض هي الأرض، والبشر هم البشر، والأيام هي الأيام، فلا يُمكن للقاتل أن يتوقف عن القتل، ولا يمكن للفاسد أن يتوب عن غيّه وفساده، ولا يمكن للمجرم أن يكون طاهرًا بين ليلة وضحاها، ولا يمكن للذئب أن يكون حملا وديعا، فطبيعة الأشياء ـ في حقيقتها ـ لا تتغير، وجوهر النظام لا يختلف، ولكنها فرصة للبعض أن يتأمل في ذاته، وأن يُدرك ما هو عليه في الحقيقة، وأن يحاول أن يكون أكثر اعتدالا، وأقل فسادا، وهذه أمور يملكها الإنسان وحده، ولا يعتدل حاله إلا إذا أراد هو أن يعتدل حقًا.

(3)

ثلاثون يوما قد تكون فارقة لدى البعض، وقد تمر مرور الكرام على البعض الآخر، وقد لا تمر أبدا على كثير من الناس، فالصوم قد يكون مجرد "عادة" يحرص عليها- أحيانا- حتى أولئك الذين تلطخت أيديهم بدم الأبرياء، وحتى الذين يعيشون على أرض اغتصبوها من يد غيرهم بالباطل والبهتان، وحتى أولئك الذين كل أكلهم حرام، وملبسهم حرام، ويتغذون على الحرام، حتى مثل هؤلاء يحرصون على الجوع والعطش، ولا يتعظون، ولا يأبهون بتصحيح مسار حياتهم، ومع ذلك يحرصون على الصيام!!

وهناك فريق آخر يكون صومه عبادة، يحرص فيها على التزود بالتقوى، وينتظر شهر رمضان لكي يُقربه إلى الله زلفى، ويتأملون في أنفسهم، ويعودون إلى رشدهم، ويتفكرون في أمور حياتهم، ويتخذون من الشهر الفضيل "كهفا" يفرون فيه من الدنيا وملذاتها، إلى الذات وحقيقتها، ومن نداء الغرائز، إلى سماء الروح، وهم "القلّة".

(4)

اليوم..تنقلب أحوال النَّاس رأسا على عقب، تطول لحى الرجال، وتقصر ثيابهم، و"تتجلبب" النساء، ويتخلصن من أكوام الأصباغ، وساعات الوقوف المهدرة أمام المرآة، ويتحول الليل نهارا، والنهار ليلا، فتتقلص ساعات العمل، وتقل إنتاجية الموظف، وتمتلئ المساجد بالمصلين، وتزيد أسعار السلع، وتزيد تبريرات المسؤولين لتأجيل المُعاملات إلى ما بعد شهر رمضان، وتبدأ الفضائيات تبث أعمالها المؤجلة، وتتنافس القنوات في "الترفيه" عن الصائم، وتطول مائدة الإفطار، وتتنوع الأكلات، وتتحول "السُفرة" إلى "بوفيه" مفتوح ينافس فنادق الخمس نجوم، وتتخم حاويات النفايات بشتى أنواع الطعام الزائد عن الحاجة، رغم أنَّ جيرانا أو بشرا آخرين في مكانٍ قريب أو بعيد يتضورون جوعا، ويفطرون على الماء، ولكن كثيرا من "صائمي العادة" دأبوا على تفريغ شهر رمضان من محتواه، إلى "أيام أُخر"، لا علاقة لها بالحكمة التي شُرع من أجلها الصوم.

(5)

رغم كل ما يدور حولنا، ورغم التناقضات التي يعيشها هذا العالم، ورغم كل الممارسات التي يقوم بها البعض في هذا الشهر الفضيل، إلا أنه يبقى الشهر الأكثر تطهيرا للنفس، والأقرب للرجوع إلى الله.

فكل عام وسلطنة عُمان وسلطانها المفدى وشعبها الكريم محفوفين بالخير، والأمن والسلام.