من صور الظلم الاجتماعي

 

محمد بن سعيد الرزيقي

الظلم ظلماتٌ يوم القيامة؛ هكذا جاء تحذير النبي- صلى الله عليه وسلم- من عواقب الظلم الوخيمة؛ فقد ورد في الحديث الشريف، الذي رواه مسلم أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسـلم ـ قال: "اتقوا الظلم، فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة"؛ فلا يكاد مُجتمع من المجتمعات، أو فرد من أفراده يخلو من الظلم بحكم التداخل بين بني البشر في المعيشة والمُعاملات.  

الحقيقة أن الظلم تتعدد أنواعه وصوره؛ وأعظم أنواعه هو ظلم الإنسان لنفسه؛ وصورته بأن يُشرك بالله تعالى، ويعبد من دونه إلها آخر، هذا الظلم وصفه الله تعالى بأنه عظيم وخطير، يقول الله سبحانه وتعالى في معرض نصح لقمان لابنه: "يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (لقمان:13)، وهو ظلم لا يغفره الله سبحانه وتعالى؛ حتى يرجع الإنسان إلى ربه، ويجدد النطق بالشهادتين، ويحقق مضامينهما في واقع حياته.

أخي القارئ الكريم.. إنَّ الظلم الذي بصدد الحديث عنه؛ هو ما يسمى بالظلم الاجتماعي؛ حيث ما زال النَّاس يؤججون فتيله فيما بينهم، ويضرمون ناره، ويكتوون بسعيره، ونتيجة لذلك فقد ذاقت المجتمعات، براكينه الثائرة، وحممه المحرقة، وكان من أبرز مظاهره تسلط القوي على الضعيف، وبغي الغني على الفقير، وهيمنة الرجل على المرأة، وسيطرة الكبير على الصغير، يحدث ذلك عندما تتجرد النفوس والمجتمعات من معاني الإنسانية، وتنسلخ من قيمها الأخلاقية، وتغرب إشراقة إيمانها، ويتضاءل صوت الحق والعدالة، ويعلو صوت الجور والظلم؛ حينها تغدو النفوس كالسباع الضارية في غابة مليئة بالوحوش، ليس لها هم إلا الانقضاض على الفريسة، وإشباع غريزتها المتوهجة.

ولعل من أبرز صور الظلم الاجتماعي هو ذلك الظلم الذي يقع في نطاق الأسرة الواحدة، وما من شك في أن الأسرة هي نواة المجتمع وأساسه، فإذا كانت الأسرة يسودها العدل والمساواة بين أفرادها، كان ذلك مؤشرا على صلاح المجتمع وترابطه، وصلابة قاعدته، ومتانة أركانه، وقوة بنيانه، وأما إن كان الظلم هو السائد؛ فالبوار والويل لذلك المجتمع، بحيث تتصدع قاعدته، وتنهدم أركانه، ويُقوض بنيانه.

أخي القارئ الكريم..إن من الظلم البغيض أن يظلم أحد الزوجين الآخر؛ فقد يظلم الزوج زوجته، وذلك بأن يحرمها من حقوقها المادية، والتي تتمثل في النفقة عليها، وتوفير احتياجاتها من مأكل ومسكن، وترفيهها، وحقوقها المعنوية، وتتمثل في الجفاف العاطفي تجاهها؛ فلا تشعر بما يشعر به النساء من حب وأنس، ولا يكافئها بكلمة مدح أو ثناء على ما تقوم به من أعباء البيت من غسيل الملابس ونظافة البيت، وإعداد الطعام، وتربية الأولاد، والقيام بشؤون الزوج وغيرها من الأمور، وقد تظلم الزوجة زوجها؛ فالزوج على الرغم ما يقدمه من تضحيات من أجل توفير لقمة العيش لأسرته، وتوفير احتياجاتها، واحتياجات الأولاد تجيء الزوجة في نهاية المطاف فتنكر ذلك كله، وتنسفه نسفًا، وكأنه لم يكن شيئا مذكورا، ولربما قالت له: ما رأيت منك خيرا قط.

ومن صور الظلم في الأسرة تفضيل الأب أو الأم لأحد أولادهما على حساب الأولاد الآخرين، وإيثاره بينهم في العطية والهدايا، وتفضيل الذكور على الإناث في العطية، والمحبة، والاهتمام بهم، بينما البنات لا ينظر إليهن، ولا يلتفت إلى مطالبهن واحتياجاتهن؛ مما يورث العداوة والبغضاء بين الإخوة؛ ويكون سببا في عقوق الوالدين.

وكذلك من صور الظلم الاجتماعي عدم تقسيم الميراث القسمة الشرعية، وترى المرأة هي الجانب الأضعف والمغلوب على أمرها، ولا عجب أن ترى من يأتي إلى صاحبة الميراث، ويقول لها: تنازلي عن حقك في الميراث أو بعض حقوقك لصالح إخوتك الذكور أو أخيك الصغير؛ فتبقى المرأة المسكينة بين خيارين أحدهما أمر من الآخر، فإن هي تنازلت لإخوتها يفوتها الميراث الذي هو حق شرعي لها، وهي في الأساس حاجتها ماسة إليه، وإن هي لم تتنازل ناصبوها العداوة والبغضاء، وبارزوها بسيف القطيعة.

ومن الظلم الاجتماعي تزويج المرأة المستقيمة على أمر الله برجل غير مستقيم، والغرض من هذا الزواج- كما يُزعم- هو الطمع في إصلاح الزوج، فهل علم المجتمع الغيب بأنها ستهديه إلى صراط الله المستقيم؟!! اتقوا الله أيها الآباء، إنَّ الهداية ليست بيد المرأة، فإذا كان الله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (القصص: 56) فهل نحن البشر نملك الهداية؟!!

ومن صور الظلم الاجتماعي، زهد المجتمع في العلماء، والنوابغ، وأصحاب الإبداعات، والمخترعين والمكتشفين، وعدم تسليط الضوء عليهم، وعدم تشجيعهم والأخذ بأيديهم، وعدم الاحتفال بإنجازاتهم ومخترعاتهم؛ بل بالعكس يتم قتل الروح المعنوية فيهم، وتثبيطهم- إلى حد اليأس- بكثرة ما يواجهونه من عقبات، ومصاعب في سبيل تحقيق مخترع قام به أحد المخترعين المبدعين، أو اكتشاف علمي نافع للأمة، ولا ينالون الدروع والمكافآت التي ينالها غيرهم من فئات المجتمع الأخرى.

وقد يحصل الظلم في المدارس؛ فعلى سبيل المثال: المعلم في الفصل الدراسي لا يعير الحصة أي اهتمام، ولا يبذل جهدا في توصيل مادة الدرس إلى طلبته، فيؤدي ذلك إلى تقصيره في عمله، ويكون بذلك قد ظلم طلبته الذين هم أمانة في عنقه، وكذلك ما يكون من المعلمين من تفضيل بعض الطلبة على حساب طلبة آخرين.

ومن صور الظلم التي تكثر في مواقع العمل، ظلم المسؤولين لموظفيهم؛ كأن يفضل بعض الموظفين على حساب بعض؛ فيقوم بتزكيتهم، والتوصية لهم في استحقاق الامتيازات، والمكافآت، أو الترقي في السلم الوظيفي لا لشيء، إلا لقربهم منه من ناحية النسب أو القبيلة أو من ناحية (اخدمني واخدمك) أو غير ذلك، وبالتالي تضيع حقوق المجيدين في العمل، فلا ينالون مكافأة، ولا ترقيات، ولا يترقون في السلم الوظيفي؛ فيظلون يقاسون من ظلم أولئك المسؤولين.

وختامًا على الإنسان أن يتقي الله تعالى، ويتدارك نفسه بالتوبة النصوح، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، ويسعى في طلب المسامحة ممن ظلمهم، ويكف عن ظلمه، فالله تعالى حرَّم الظلم على نفسه، وجعله محرماً بين الناس، يقول الله تعالى في الحديث القدسي "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا.."، ويجب على الإنسان أن يقيم ميزان العدل، فالله تعالى يقول: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المائدة: 8)، وأن نأخذ الحيطة والحذر من قوارع نذر الله، وشديد وعيده، وما أعده الله للظالمين، يقول المولى سبحانه وتعالى: "إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا" (الكهف: 29).

تعليق عبر الفيس بوك