د. إسماعيل بن صالح الأغبري
العالم بأسره يموج بالاضطرابات السياسية والعسكرية وتندلع أحداث جسام بين دوله وشعوبه إما عن طريق الحروب الكلامية الإعلامية أو عن طريق ميادين القتال.
ومن أحدث حوادث هذا العالم المضطرب اضطرام نار الحرب داخل أوروبا بين روسيا الوريث الشرعي والوحيد للاتحاد السوفيتي تلك القوة العظمى المنهارة إلى 14 دولة في مطلع تسعينيات القرن العشرين المنصرم وبين أوكرانيا الدولة الدائرة سابقاً في المعسكر السوفيتي والراغبة في الانضواء تحت مظلة خصم روسيا العتيد حلف شمال الأطلسي "الناتو".
وسط هذا الاضطراب وما سبقه من تجاذبات بين إيران القوة الإقليمية الصاعدة وبين أمريكا والغرب عامة ومنه بريطانيا بسبب ما يزعمه الغرب من سعي إيران لامتلاك السلاح النووي وتدخلها حسب زعمه في المنطقة وتسارع نمو قوتها الصاروخية، وكأنَّ الغرب بريء من التدخلات بعيد كل البعد عن الأسلحة النووية والكيماوية لا يمتلك صواريخ عابرة للقارات وليس لديه غواصات نووية ولا جيوش مُدربة على أحدث أنواع الأسلحة وكأنه رافع يده عن عالمنا معتزل عن بلداننا؟
وسط هذا الزحام من الصوت العالي في أروقة الأمم المتحدة أو الدخان المتصاعد من فوهات البنادق هناك صوت الدبلوماسية العُمانية الهادئة الناعمة المتوارثة من عاهل إلى عاهل تعمل على حلحلة كل شائكة وتفكيك كل عقدة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا إنها عُمان عز مثيل لسياستها ودبلوماسيتها في الشرق الأوسط كما عزَّ مثيل سويسرا في الغرب.
عمان ورغم بحار من الحروب في الإقليم والعالم، ظلت مختلفة عن غيرها في دبلوماسيتها من حيث العمل على إطفاء بؤر التوتر وتجنب الانخراط في المشكلات الداخلية للدول أو المشكلات البينية داخل الدولة الواحدة. والتسهيلات أو الوساطات والمقصود بها بذل الدبلوماسية العمانية وسعها من أجل الإفراج عن محتجزين لدى جماعات أو دول لأسباب منها تصفية حسابات أو لمقايضات أو وسيلة ضغط أو اعتبار ذلك من أوراق القوة عند التفاوض أو أن المحتجزين دخلوا بلدا بطريق غير مشروعة أو مارسوا أعمالا مخالفة للنظام الأساسي لتلك الدولة أو تعمدوا انتهاك النظام الأساسي. ومن أحدث التسهيلات أو الوساطات التي نجحت من خلالها الدبلوماسية العُمانية في تخليص محتجزين هو ما كان من التمكن من الإفراج عن محتجزين اثنين بريطانيين في إيران. إن هذا الإفراج ما كان ليتم لولا علاقات طبيعية حسنة مع الجمهورية الإسلامية في إيران والتي لم تشهد قط اضطراباً أو تململاً بين عمان وإيران؛ سواء أكان ذلك أيام الشاه أو خلال حكم الإمام آية الله الخميني أو خلال انقسام الإسلاميين إلى محافظين أو إصلاحيين، وفي هذا النجاح دليل حي وملموس على أنَّ العلاقات العمانية الإيرانية هي هي لم يصبها تقهقر ولم يمسسها تراجع فعُمان لا تصل ثم تقطع أو تتقلب في العلاقات.
وكذلك علاقات سلطنة عمان مع بريطانيا قديمة ولا ننسى أن بريطانيا كانت في يوم من الأيام إمبراطورية ذات امتداد واسع وأكثر دول العالم لها علاقات حسنة معها وعمان جزء من هذا العالم. قد يُساهم هذا الحراك للسياسة العُمانية في تلطيف الأجواء المشحونة خاصة بسبب ما يُردده الغرب من سعي إيران لامتلاك السلاح النووي وكذلك قد يكون هذا الحراك النشط المكلل بالنجاح للدبلوماسية العمانية سبباً من أسباب التعجيل بعودة الأطراف إلى الاتفاق النووي الذي انسحبت منه أمريكا أيام الرئيس السابق ترمب وبقيت عليه إيران حتى أخذت تتخلى عن بعض بنوده تدريجيًا.
سلطنة عُمان ساهمت مساهمة مؤثرة في إبرام الاتفاق النووي عام 2015، وعقدت في مسقط مفاوضات بين القوى العالمية (خمسة + واحد) من أجل الاتفاق وبذلك فهي من الدول الراغبة في سيادة أمن الدول واستقرارها لكي تتقدم عجلة التنمية وتسود لغة التفاهم بين دول المنطقة ودول المنطقة والعالم.
إنَّ هذا النجاح في الإفراج عن المحتجزين الاثنين البريطانيين له توابع حسنة بين ذات البلدين بريطانيا وإيران فهو يمهد لمزيد من التعاون الاقتصادي بينهما إذا تمَّت العودة للاتفاق النووي. وهذا الاتفاق أيضًا قد يشجع لإطلاق سراح آخرين بين دول أو جماعات.
لا شك أن إيران حققت مكاسب اقتصادية فورية من هذا الاتفاق فقد صار إليه ما يقرب من خمسمئة مليون دولار أمريكي كانت محتجزة في بريطانيا من عشرات السنين وحيث إنَّ إيران في أمس الحاجة لعشرات الملايين من الدولارات فمن باب أولى سيكون لتدفق خمسمئة مليون دولار الأثر الكبير في اقتصادها. لقد ارتضت جميع الأطراف وسلمت بدور عُمان وتحاكمت إلى دبلوماسية عمان وكل وثق في سياسة سلطنة عمان فبريطانيا أودعت حقوق إيران المالية في بنوك سلطنة عمان وقبل الإفراج عن المجتجزين ولم تخلف إيران الموقف مع عمان فأطلقت سراح المحتجزين.
ليست هذه المبادرة الناجحة هي أول تجربة للدبلوماسية العمانية وإنما هي سلسلة حلقات لفك أسر الأسير وإطلاق سراح المحتجزين بغض النظر عن اللون أو العرق أو الجنس أو القومية أو الدين. فقد تمكنت دبلوماسية سلطنة عمان عام 2013 من الإفراج عن الشخصية العلمية الإيرانية المحتجزة في إيران كما تمكنت من الإفراج عن أمريكيين محتجزين في إيران. وكذلك كان لها الأثر الإيجابي في الإفراج عن شخصيات عربية وغربية محتجزة سابقًا في اليمن بيد جماعات في اليمن ولولا ثقة الأطراف المختلفة الإقليمية والدولية في المنهج السياسي العماني لما كان من ذلك شيء.
شتان بين منهج يقوم على أسس الحرية للجميع والعيش الكريم للجميع وبين أسلوب تسعير الفتن وإشعال الحروب والتدخل السلبي في شؤون الدول، وعمان من الدول القلائل ذات الصيت الحسن في مجال التقريب بين أمم الأرض من طرق مختلفة ومنها السعي للإفراج، عن محتجزين هنا وهناك.
ولا تدع السياسة العمانية سبيلا لبث روح العيش المشترك وتلطيف الأجواء إلا سعت إليه، ولو التزمت سائر الدول بهذا المنهج لما رأينا تقطع العلاقات وشيوع النزاعات البينية داخل الدولة الواحدة أو بين الدول المختلفة.
يبقى أن هذه الدبلوماسية العمانية المحمودة ينبغي الترويج لها والتسويق لها؛ إذ الخير لا بُد أن ينشر، كما إن محامد السياسة العمانية ومناقبها ينبغي أن تدرس في الجامعات والكليات والمعاهد خاصة المعنية بالعلوم السياسية وبالأخص في الجامعات والكليات والمعاهد العمانية لينشأ الجيل العماني مطلعا على منهج دولته وحسن سيرة سياسة ودبلوماسية بلاده فهذا أجدى بدلا من معرفته بمناهج رموز أخرى عربية وغربية دون معرفته بمنهج الدبلوماسية العمانية.
ويبقى أيضًا أن هذا المنهج الدبلوماسي والسياسي الذي تفردت به سلطنة عمان تقريبا في المنطقة لابُد أن تستثمره وتستفيد منه استثمارات مالية ومشاريع على أرضها اقتصادية، وأن تحصل على معاملات تفضيلية، ذلك أنه ليس في السياسة العمل "لله في لله"، وإنما السياسة اليوم مبنية على المصالح وجلبها ودفع الأضرار والمفاسد، فما الجدوى من النجاحات إن كانت غير معروفة للعامة والخاصة؟ وما الجدوى من إجماع دول العالم على سلامة المنهج وعدم اختلاف اثنين على أن هذه الدبلوماسية هي الطريقة المثلى، وصاحبها غير مستفيد منها ولا مستثمر لها؟ إن الغرب لا يؤمن إلا بالمصالح والدرهم والدينار والدولار والين والجنيه، لذا لابُد من الاستفادة من هذا المنهج لينقلب أثره على معاملات تفضيلية وتقديم لعمان من تلك الدول في الشؤون الاقتصادية والسياسية.
وهذا النجاح والتزام الدبلوماسية العمانية وعلى مر العصور يقتضي جني الثمار والحصول على الورود وليس فقط الحصول على عبارة (جزاكم الله خيرًا) أو عبارة (سعيكم مشكور)، ذلك أن الطرف الذي نجح في المساعي قد يؤدي نجاحه إلى زيادة شعبية ومكانة نظام تلك الدولة أو إعادة انتخاب رئيسها أو رئيس وزرائها وقد يؤدي نجاح ذلك الطرف الذي قام بالتسهيلات أن يزداد تقارب البلدين المختلفين والتفاوض فيما بينهما مباشرة، وقد يدخلان في عقد اتفاقيات اقتصادية وتنموية مباشرة وقد تصير علاقاتهما طبيعية وحسنة من بعد توتر لذا فليس من المعقول عدم حصول من كان سبباً في ذلك إلا على سمعة طيبة دون ترجمة ذلك على الساحة الاقتصادية والتنموية.
إن من يتمكن من التقريب بين الأطراف وصارت له سمعة دولية طيبة لابُد أن يسعى إلى أن يكون رقمًا محسوبًا صعبًا وأن ينال من خطواته ثمارًا سياسية واقتصادية وألا يعامل حاله حال غيره من الدول.