الضرير الذي أيقظ القرية

 

محمد بن سعيد الرزيقي

ما زالت ذاكرتي تختزن الكثير من مشاهد ومواقف من حياة ذلك الرجل الضرير الذي عاش بيننا، والتي بدأتُ بحفظها منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي إلى أن توفاه الله تعالى في مطلع الألفية الثانية، في العام 2009، وعلى الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على وفاته إلا أن مشاهده، وتنقلاته في القرية ماثلة أمام عيني لم تمحها السنون، ولم تطلها طائلة النسيان؛ فقد شاهدته وهو يجوب القرية إما زائرا لمريض، أو واصلا لرحمه، أو غير ذلك، وكان يرتدي الملابس البيضاء (الدشداشة)، ويلف حول رأسه عمامة بيضاء أيضًا، ممسكًا بعصاه التي لا تُفارقه بالليل ولا بالنهار، يستدل بها على الطريق مقدما أحد طرفيها إلى الأمام، بينما يظل هو ممسكا بطرفها الآخر؛ لئلا يتعثر بصخرة، أو يسقط في حفرة، أو لئلا يصطدم بأحد جدران المنازل أو جذوع أشجار الغاف، وله فيها مآرب أخرى؛ ذلك هو العم محمد والذي اشتهر في أوساط القرية باسم حمودي.

كان لا يملك من هذه الدنيا إلا غرفة صغيرة، سقفها من مربع الخشب، ونوافذها من خشب، تتعامدها أسياخ حديد، تدخل من خلالها أشعة الشمس في صباح كل يوم، ولا تدخلها بعد ذلك إلا في صباح اليوم التالي، وجدران الغرفة لم تكن مصبوغة بأية أصباغ، منظرها إسمنتي، وعلى الرغم من دخول الكهرباء إلى منازل القرية إلا أن غرفته لم تدخلها الكهرباء إلا بعد فترة من الزمن. حشر فيها كل ما يملكه؛ فترى في إحدى زواياها خزانته (سحارته)، التي أودعها ملابسه، وبعض النقود، وبعض الأوراق الرسمية، وترى في الزاوية الأخرى حبالا وليفا، والليف يستخرج من كرب أشجار النخيل.

كان يأكل من عمل يده، وتأبى نفسه أن يمد يده إلى أحدٍ من الناس، فقد عاش عفيف النفس، كريم الخصال، اتخذ له عملا، وأتقن صناعة الحبال التي كان ينسجها بأنامله من ليف النخيل، فيخرج منها حبالا تستخدم كمراصغ للحيوانات ولربط الأمتعة ولأغراض أخرى، وكان بارعًا حاذقًا في صناعته هذه؛ فقد سمع بجودة حباله القاصي والداني، ولا عجب أن ترى زبائنه من يأتون إليه من القرى المجاورة، وكان ينسج حباله في الضحوة تحت ظلال أشجار الغاف التي كانت تتوسط القرية، وكان أهلها يستظلون بظلها من لهيب الصيف الحار، بينما هم يتناولون ويتجاذبون أطراف الأحاديث الجانبية، ويتناقلون الأخبار، كان العم محمد مشغولا في نسج الحبال، وكان المذياع (الراديو) بجانبه، حتى إذا أعلنت الساعة الحادية عشرة ظهرا من إذاعة سلطنة عمان، يمم أذنيه إلى المذياع، وأصغى بكل اهتمام إلى نشرة الأخبار، لقد كان مطلعاً على أخبار الوطن والعالم.

ذات مساء حدثنا بحديث أول مرة نسمعه منه، كانت كلماته تخرج من فيه ملؤها الحزن والأسى يقول فيما معناه: كنت في سن السابعة من عمري عندما أصابني الرمد في عيني (التراخوما)، وكان ذلك قبل سبعينيات القرن الماضي، ولم أتلق العلاج الصحيح، والعلاج في ذلك الوقت هو ضرب من اجتهادات الطب الشعبي يصيب ويخيب، على إثره فقدت أغلى ما أملك، فقد كنت طليقاً أسرح وأمرح في براري القرية، وربوعها، ومسارحها، وكنت أرعى الإبل والغنم على الرغم من صغر سني، واليوم أجدني مقيد الحركة، أعتمد على غيري في تسيير أموري، ولم تعد رجلاي تجوب تلك المسارح والبراري، ومع هذا وذاك عوضني الله بالصبر الجميل، والتأقلم مع حياتي الجديدة، وبينما أنا على حالي هذا؛ ففي مطلع سبعينيات القرن الماضي، عندما حكم البلاد جلالة السلطان قابوس، وانتشر التعليم في ربوع عمان، أتاحت الدولة فرصة التعليم للعُميان أمثالي، وجاءني من يأخذ موافقتي في هذا الموضوع، والسفر إلى دولة البحرين لتلقي العلم، ثم الرجوع إلى عُمان، والتعيين في إحدى الوظائف المناسبة لأمثالنا؛ إلا أنَّ الظروف حينها لم تسمح لي بالسفر إلى خارج البلاد... انتهى.

كان يستقي من مذياعه الأخبار، فيقوم بنقلها إلى جلسائه، الذين يجلسون معه في عشية كل يوم على دكة الرمل المقابلة لغرفته العتيقة، وكان يتحلق حول مذياعه طلبة شهادتي الإعدادية والثانوية العامة لسماع أسمائهم من ضمن الناجحين، وظل المذياع أنيسه، وكان كثيرا ما تراه يقلب بأصابعه موجات (شعرة) المذياع لعله يعثر على قرآن يتلى، أو حديث ديني يستفيد منه، ومن مذياعه ذاك كان يستدل على أوقات دخول الصلوات؛ فحينما تبدأ الإذاعة ببث الابتهال الديني الذي يسبق موعد الآذان بدقائق معدودة، يقوم هو بالوضوء والاستعداد لأداء شعيرة الصلاة في بيته، ولم يكن وقتئذ مسجدا بالقرية.

وعند تأسيس أول مسجد في القرية كان هو من الملبين لنداء الله، والسابقين لأداء الصلاة فيه، ولم تطاوعه نفسه بالصلاة في البيت على الرغم من وجود العذر له، فقد كان المسجد في أقصى القرية وهو يسكن في الأقصى الآخر منها؛ فهو من هذه الناحية شبيه بابن أم مكتوم عندما لم يعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - من حضور الصلوات في المسجد ما دام يسمع النداء للصلاة. ولأول مرة يمسك بيديه مكبر الصوت رافعا كلمات الأذان الله أكبر، الله أكبر، فإذا صوته يجلجل في أنحاء القرية، ويسمعه كل من فيها، وكان أهالي القرية يطلبون إليه عند ذهابه لصلاة الفجر أن يوقظهم للصلاة، فكان يقرع الأبواب، والمكيفات بعصاه أثناء سيره إلى المسجد.

 رحم الله العم محمد؛ كان مثالا يُحتذى به، وقدوة حسنة؛ بالرغم من إصابته بداء السكري، وعدم وجود قائد خاص يوصله إلى المسجد خصوصا في صلاة الفجر، وما يعانيه في الطريق من الاصطدام بالأغصان المتدلية، وتعثر قدميه بالحجارة الممتدة على طول الطريق؛ فكم من مرة تُدمى جبهته، وكم من مرة تتهشم قدمه؛ فيسيل منها الدم؛ وهو مع ذلك غير آبه بما يلاقيه في سبيل الله، غفر الله له وأدخله فسيح جناته.

تعليق عبر الفيس بوك