التعليمُ بين الكمِّ والكيف

 

د. صالح الفهدي

استمعتُ إلى رسالةٍ صوتيَّةٍ لأُمِّ طفلٍ في الصفِّ الأوَّل تسألُ معلمةً سؤالاً جوهرياً منطقياً: هل تجتهدونَ ليحصل الطالبُ على "الكمِّ" أمِ "الكيف" من التعليم؟!

أحسبُ أن الردَّ على هذا السؤال الكبيرِ لا يمكنُ أن يُعهد إلى معلمةٍ ولا إلى مشرفة، فهو سؤالٌ يقومُ عليه عِمادُ التعليم وصرحه؛ بل يقومُ عليه الوطنُ وإنسانهُ وتنميتهُ ومستقبله..! وعلى ذلك فإنَّ على صنَّاع التعليمِ، ومن وضعَ فلسفة التعليم، ومن وضعَ الرؤى المستقبلية لمستقبل الوطن أن يتوقَّفوا عندهُ فهم الأجدرُ بالإجابةِ عليه.

طفلٌ في بدايةِ عُمره الدراسي، وفي أول عهدهِ بالتعليم يتلقَّى سيلاً هائلاً من (كمِّ) المعلومات التي يُرادُ له أن ينهيها في فترةٍ قياسية ليس لأجلِ تحقيقِ معرفةٍ وإنما لأجلِ (إنهاءِ مقرَّرٍ) والقفز فوراً للمرحلةِ التي تليه، حتى يتحقَّق الهدف الورقي دون أن يتحقق الهدف المعرفي..! تتحدَّث الأُمُّ بغصَّةٍ واضحةٍ وهي واعيةٌ بأنَّ تكديس المعلومات أمرٌ مرهقٌ لهذا الطفل الغضِّ؛ إذ لا يكاد يستوعبُ منها 1% كما ترى الأُم، وهذا ما قصدهُ التربوي والمصلح الإجتماعي البرازيلي باولو فريري بـ"التعليم البنكي" الذي يتعامل مع الطالب على أنَّه مجرَّد خزَّان معلومات، يُحشى بكمٍ هائلٍ من المعلومات دون اعتناءٍ بالفهم منها..!

تواصلُ الأُم المُتعبة التي تكادُ أن تبكي تساؤلها: كيف يمكنُ لأبنائنا أن ينتقلوا إلى الصف الثاني والثالث والرابع دون أن يعرف الواحد منهم كتابة اسمه؟! بل إنني أقول إن هناكَ ممن وصل إلى سنواتٍ متقدِّمةٍ في التعليم لا يستطيع أن يكتبَ فيها جملةً من الجُمل، فكيف وصلَ إلى الصفوف العاشرة أو الحادية عشر؟! ناهيكم عن عقلياتهم وأفكارهم ونظرتهم للحياة وتعاملهم مع الواقع..!

إن مسألة (الكمِّ) و(الكيف) في التعليم لها أثرها السلبي في المجتمع حتى أصبحت ثقافة متجسِّدة سببها هذا التعليم الذي يعتني بـ(الكم) لا بـ(الكيف)، بعدد الدروسِ المقررة، لا بالمعرفة المحصَّلةِ فيما يفيد الطالب في دراسته، وهذه هي النتائج:

مؤسسات العمل لا تعتني بـ(الكيف) بل بـ(الكم) ففي تنمية مواردها البشرية يهمها كم من الموظفين قد ابتعثت أو درَّبت أكثر مما يهمها الكيفية التي يحصلُ عليها موظفوها في تلقي جودة التدريب والتطوير على رأس العمل! وفي الترقية يهمها (كم) رقَّت من الموظفين لدفعة السنة الفلانية أكثر مما يهمها (كيفية) ترقي أولئك، أو من هم الذين يستحقون الترقية!

وفي أداء العمل يهمُّها (كم) ساعة يقضيه الموظف في مقر عمله أكثر مما يهمَّها جودة الإنتاجية أي الكيفية التي قضاها هذا الموظف في مكتبه!

وفي طلبات التوظيف يهمَّها (كم) سنوات الخبرة، أكثر مما يهمَّها (كيفية) هذه الخبرة!

وفي عدد المعاملات يهمُّهما (كم) أنجزَ الموظف من معاملات أكثر مما يهمَّها (كيف) أنجزها!

والأمرُ سيَّانَ في المجتمع، فالناس أصبحوا يعتنون بـالـ (كم) أكثر من الـ(كيف) في مشترياتهم، ولباسهم، ووسائل نقلهم، وسائر حاجاتهم وكمالياتهم، حتى سمَّى الفيلسوف مالك بن نبي مجتمعاتنا بـ(مجتمعات الشيء) التي يكثرُ فيها التكديس المتعلِّق بـالـ(كم)، بل وطالت ثقافة (الكم) عبادتنا فكثيرون يهمُّهم (كم) قرأ من أجزاءِ القرآن، لا (كيف) قرأها..!!     

وما أكثر ما نردِّد هذه الكلمة (كم) لأنها قد ترسَّخت فينا كمحصلَّةٍ مما جنيناهُ من التعليم، وها هي (كم) تتردد في كلامنا اليومي كثيراً دون أن ننتبه لها لأنها أنتقلت من العقل الحاضر إلى العقل الباطن!.

يقول د.عبدالعزيز العمر: "بالغت مناهجنا في عدد صفحاتها على حساب ما يكتسبه ويتعلمه الطالب فعلاً من مهارات وقدرة على التفكير". وحينما تحدَّثتُ في برنامجي "نهضة أُمة" عن الجراثيم التي تخلَّصت منها فنلندا وأولها كثافة المواد الدراسية، انتشر المقطع في دول الخليج العربي بصورة واسعة في وسائل التواصل الاجتماعي وما كان انتشار المقطع المرئي إلا دليل ينمُّ عن الحاجة الماسَّة لتغيير مسار التعليم في بلداننا وتعديل منهجيته؛ كَيْ يتوافق مع المتغيرات التي يشهدها العالم، كما يكون له أثرٌ مشهودٌ في مُخرجات التعليم في الأجيال المتعلمة التي أُوْلَاها بناء الشخصية المُتَّزِنَة التي تَعِي قيمة المسؤولية، وتمتلك أدوات القرار.

هُنا أقول لصنَّاعِ قرارِ هذا الوطن: إن أردتم تأسيس مستقبلٍ أصيلٍ، وتنميةٍ حقيقية لهذا الوطن فأنقذوا التعليم بتصحيح مساره، ليقومَ على الـ(كيفِ) لا الـ(الكم)، من أجلِ نشأة جيلٍ متعلِّمٍ قادرٍ على بناءِ قدراتهِ ومهاراته قبل أن يبني وطنه. 

إن ثقافة (الكم) لا تبني وطنًا، ولا تؤسس إنسانًا صاحبَ فكرٍ متحرِّرٍ من معوِّقات النقد، قادرٍ على التفاعل مع عصر المعرفة الذي لا يعتمد على كثرةِ المعلومات بل على الكيفية التي تكون عليها هذه المعلومات.

وأخيراً أقولُ: رِفقًا بأجيال المُستقبل، لا تتعاملوا معهم على أنَّهم (خزَّانات) تكدَّسُ فيها الكثرة من حشو المعلومات التي لا طائلَ من ورائها، رفقاً بجيلٍ نريدُ منه أن يكون جيلاً أصيلَ المعرفة، متَّقدَ الذهن، واعي البصيرة، عالي الهِّمةِ، متقن الأداء، فبهذا الجيلُ وحدهُ يُصنع المستقبل.