مرُّوا من هُنا

 

عائشة السريحية

إن الحياة عجيبة لدرجة أن الأحياء لا يستطيعون فهمها، وهو ذات العجز عن الفهم للموت، وهي ذات الحيرة التي تلبست أرسطو في فلسفته عن علم الوجود أو الوجود المجرد، أو الوجود مع ما هو موجود، الأنطولوجيا، وكل هذه التعريفات التي تُنسب إلى أرسطو تهدف إلى دراسة الوجود النقي والمفروض منطقيًا.

أو كما عبَّر جان بول سارتر عن فلسفته، فرأى أن يوجد الإنسان أولاً ثم يعترف لنفسه بوجوده، ومن هذا الإدراك  يتواصل مع العالم الخارجي، فيمتلك صفاته، ويشرع في الاختيار مما هو موجود، وليس لأي شخص آخر الحق في الاختيار له، تمامًا كما لا يجوز لأي أحد أن يسلب حقه في حرية الاختيار.

والأسئلة الوجودية كانت تحتل مساحة في عقل الإنسان منذ بدء الخليقة، قيل إن الإنسان القديم لم يكن يفقه سوى الصيد ثم عرف الزراعة ثم بدأ في رسم أحداث حياته على الحجارة والأشجار والطين، وكانت تلك العلامة الفارقة، فحين عرف الكتابة سجل أول معلومات استطاع أن ينقلها لغيره بعد موته، وظل الخط البياني لعقل الإنسان يتصاعد نحو الأعلى جيلا بعد جيل، رغم ما مر به في حقبات مظلمة، والظلام الفكري والعقلي هو أشد من أي ظلمة أخرى.

لكن ماذا بعد؟ وإلى أي مدى يمكن للإنسان أن يطور فلسفته، ويتعامل مع الجدلية الأزلية (الموت والحياة)؟

أعداد مهولة من البشر تموت كل يوم، والمُعدل التراكمي لموت الإنسان لا يمكن بحال إحصاؤه، قد لا تحتمل عقولنا فكرة إحصاء موتى البشر في مختلف العصور، كل تلك الأرواح رحلت رغم اختلافها أو تشابهها. ويلتهم علماء الفكر والاجتماع والفلسفة العلوم السابقة، ويضيفون عليها ما يستطيعون من استنباطهم، وانقسموا ما بين الوجودية الإيمانية والوجودية الإلحادية، وكل حزب يسعى لإثبات اعتقاده، ورغم انقسامهم لم يستطيعوا أبدا إيجاد جواب يقنع الطرف الآخر.

أما في رحلة الحياة لبقية البشر خارج إطار المفهوم الفلسفي، فإننا في كل يوم يمر علينا أشخاص كثيرون جدا، أشخاص يمرون كمر السحاب، فلا نشعر بأثرهم أحيانا سوى ذلك الرذاذ المنعش، وأحياناً أخرى أشخاص يمكثون قليلا في محيطنا ويغادرون، وبعد فترة من الزمن ننساهم تمامُا، وأشخاص يمرون كالدواء، نحتاجهم وقت المرض، وأشخاص كالطيب الفرنسي، استمتعنا برفقتهم وتركوا بعد رحيلهم  ذكرى جميلة، وأشخاص كالمرض، أفقدونا توازننا وصحتنا وبعد رحيلهم نشعر بأننا بعثنا للحياة مجددًا، وأشخاص كالطعام لا نستغني عن تواجدهم لكننا قد نمل منهم أحياناً، وأشخاص كالصيف لا نستطيع أن نمضي أوقاتنا معهم بملابس شتوية، وآخرون كالنار نحتاج التعامل معهم بحذر.

في خضم هذه الرحلة، علينا أن نعي أن مرورهم في دائرتنا الخاصة، هي كمعلم الرياضيات واللغات الأجنبية، يعلمونك الأساسيات من التجربة ذاتها، فلا يمكنك حل مسألة رياضية دون أن تعرف القوانين ودون أن تخطئ في التقدير، لذلك لا تبكِ على شخص جاء إليك بباقة ورد ثم رحل، فوجوده في تلك اللحظة كان ليعلمك عن معنى الورد، ولا تبك من أجل شخص أساء إليك، فقد كانت إساءته درسا، ولا تتعلق بشخص وتظنه  أساس الحياة ومفتاحها، سواء كان زوجا أو ابنا أو والدا أو صديقا أو أيا كان، فالجميع سيمر ويرحل، وربما تكون أنت الراحل عنهم.

بعض التجارب التي يعيشها الفرد خلال سلسلة الأيام التي يشارك في صنع أحداثها، هي السلاح المستقبلي والتدريب اللازم لمواجهة الغد المخفي بستار المستقبل، ألا ترى أنك حين تطلب وجبة فاخرة من مطعم راق بمجرد أن تشبع من تناولها لن تستطيع أن تطلب نفس الوجبة في ذات اللحظة، ماذا لو أحببت عصير فاكهة ما كثيرًا، هل بإمكانك أن تشرب طنًا منه؟

الأمر بسيط جدًا، أنت تحيا وسط أشياء متحركة، تمر بجوارك ثم تغيب، تستمتع بالأشياء ثم تمل، تشتري بعض المشتريات الباهظة الثمن ثم تتعرض للخراب، يصيبك الحزن تارة، ثم يرحل، تحتضنك السعادة ثم تغادر، وكذلك هم الأشخاص في حياتك عليك ألا تحزن كثيرا، وألا تفرح كثيرا، فكل شخص سيمر في حياتك سيترك لك شيئًا، ربما قد يكون درساً تتعلمه، أو جمالا تتذكره، أو هدية تحتفظ بها، أو دواء لعلة، أو واحة وسط صحراء حارقة، أو وقفة وقت حاجة، أو معينا في ضائقة، أو شوكة في قدم، وقد يكون سرطانا، أو أفعى سامة، كل أولئك البشر سيرحلون جميعهم وستبقى أنت تستقبل هذا وتودع ذاك، فكما يرحلون هم، أنت أيضًا ترحل من حياة الكثيرين غيرهم، المسألة مجرد وقفات على محطات أو مفترقات طرق.

فأنت راحل وهم راحلون، ولا بقاء إلا لمن أوجد هذا الكون.